في مزيج بارع بين صبر الاستشراق التقليدي العالِم وجِدّة مناهج الاستعراب المُحدَث، ترِد إلى ثقافتنا هديةٌ من دِيار البَلقان ورُبوعه المتجاورة (كوسوفو، ألبانيا، مقدونيا، البوسنة والهَرسك)، تتمثل في مَجلّة عنوانُها أصيلٌ يسيرٌ: "دراسات شرقية" إيماءً إلى ذاك "الشرق" الخالدِ سِحرُه في الأدب والبيان. وقد صدر عددها الرابع منذ أيام في برييشتينا (كوسوفو)، وهي مجلة علميّةٌ مُحَكمة، تصدر سنويا،ً وتضم بين صفحاتها دراساتٍ نوعية عن الضّاد وآدابها، وعن تاريخ المنطقة وتحولاتها، علاوةً على تحقيق ما نَدر من المخطوطات.
ومن مظاهر طرافَة العدد الجديد تنوّعُ ألسنته، فقد نطقت الأبحاثُ فيه بالعربية والفارسية والإنكليزية والألبانية والتركية. مغامرةٌ حقيقيّةٌ تعكس تداخل هذه اللغات وتجاورها، تذكيراً بضرورة تحاوُرِها حتى تتكشّف أكثرَ أوجُهُ التفاعل الثقافي التي حكمت مجتمعات البلقان وقومياته ولغاته على مرّ العصور. المغامرة وَعْرةٌ، تقتضي تنسيقاً كبيراً لتحقيق الخيار المنهجي في مد جسور التواصل بين العاملين في حقل الدراسات الشرقية بهذه المنطقة وبين غيرهم في بقية العالم.
وهذا التحدي ليس منهجياً فحسبُ، بل معرفيٌّ يهدفُ إلى الكشف عن المضامين المجهولة والأعمال المكنونة في تلكَ الديار لتجميع ما تناثَر من أجزاء الثقافة العربية عبر مختلف المناطق التي طاولتها "الظاهرة الإسلامية"، كما كان يسمّيها المفكر الجزائري محمد أركون. فثمّة ما يشبه "المركزية العربية" على هذه الثقافة، في حين أنَّ ما صيغ بغيرها من الألسن عن حضارة الإسلام يُقاربها إتقاناً وقد يربو عليها.
تضمَّن القسم العربي من هذا العدد دراسة معمّقة عن "مُتصرّف القدس سنة 1912" وتناقض الصور التي نسجَتْها الحساسيتان العربية واليهودية عنه، ولا سيما على خلفية تسلّل المشروع الصهيوني. وتلتها دراسةٌ مترجمة عن الألبانية حول "ظاهرة تحول بعض الغَجر إلى مصريين في كوسوفو"، وهي من دقيق الأبحاث الاجتماعية - التاريخية. وفيه أيضاً دراسةٌ عن الجهود اللغوية المبذولة طيلة القرن الماضي لوضع معجم تاريخي للضاد وصولاً إلى "مُعجم الدوحة". ويليه فصلٌ عن تدريس منطق أرسطو في المدارس الألبانية، والذي تواصل إلى عهدٍ قريب.
وفي العدد زاوية اعترافٍ بالفضل وتقديرٍ للماضين، خُصصت لذاكرة مَن قضى من الباحثين الذين أسهموا في إثراء المسائل الشرقية في هذه البُقعة من العالم، المنطوية على أسرارها والمنغلقة على كنوز يَحجبُها جهلُنا بلغاتها ويمنعها منها قلةُ تواصلنا معها، حيث تتناول الزاوية اسمين بارزين هما محمد كيتسو (1949-2018) وكمال مورينا (1951-2019).
ولذلك فالدور الرئيس الذي تضطلع به مجلّة "دراسات شرقية" هو جَسر الهوة بين القارئ العربي وما يُنجز في البلقان من المباحث التي تتناول شخصيات وأحداثاً ونصوصاً، ما كان لها أن تُعرفَ لولا ما تنهض به من أعباء التحقيق والترجمة والتدقيق. كما أنّ هذا الإسهام كفيلٌ بإنهاء مركزيّتين، وهما المركزية العربية والمركزية الأوروبية الغربية على درس الإسلاميات وإظهار للتنوع الهائل لهذا الحقل. ذلك أنّ مزية هذه الدراسات أن تكشف وجود مدونات وأرشيفاتٍ ونصوصٍ يصعب على الباحثين العرب النفاذُ إليها واستغلالها لمعرفة الإسهام البلقاني في الحضارة العربية والإنسانية. فبسبب من الحضور العثماني فيها لقرون، تنطوي هذه المنطقة على "متون" بِكْرٍ، لا بد أن تتضافر على إجلائها كفاءات الباحثين هناك مع نظرائهم العرب والأوروبيين.
والغاية أن لا يظل المتن العربي غالباً على المشهد حاجباً غيره من النفائس. ربما آن الأوان أن نقول ببساطة: إنّ في البلقان شيئاً آخر غير الحروب والمآسي. آلاف الوثائق التاريخية والنصوص والمتون بلغات تلك الأقوام تنتظر ضمها إلى "الموسوعة الإسلامية"، عن جدارة لا عن مِنَّةٍ.
وأما المنهج المتوخّى في هذه الدراسات فينسجم مع أحدث آليات البحث وأدواته المعرفية، ولا يَقصُرُ عمّا وصلت إليه أجود الدراسات العلمية من تعمقٍ في النظر وتدقيقٍ في المفاهيم. وجلها ينحدر من علوم الإنسان وتطبيقاتها التي لا تني عن التطور لتثبيت نُظُم البرهنة والصياغة والتحقيب.
وهكذا تُحيي مجلة "دراسات شرقية" وشائج قربى علمية، يمكن أن تَصل بين العاملين في حقول الآداب العربية-الإسلامية من العرب ونُظرائهم من جمهوريات البَلقان. وهي وشائج من شأنها أن تسهم، ليس فقط في توحيد جهودهم، بل وفي إزاحة الستار عن تنوّع العناصر الثقافية التي عمَرَت أقطار الإسلام في حِقبة الخلافة وما بَعدها. وهي حقبةٌ أنجزت تأويلاتها الخاصة عن "الثقافة العالمة" بمنظور مقوماتها المحلية. وهذا التأويل، البلقاني الهوى والصيغة، هو ما يستحق اليومَ إعادة اكتشافه وضَمِّه حلقةً ذهبية في سلسلة الفكر الإسلامي.
قنطرة بخمس لغات
بصدور عددها الجديد، توسع "دراسات شرقية" من مساحة حركتها؛ فالمجلّة التي أطلقتها "جمعية المستشرقين" في كوسوفو في 2006، كانت تصدر بالألبانية. لكن، ومع تأسيس "معهد الدراسات الشرقية" سنة 2016، اتفق الطرفان على إصدارها باسم المعهد، بخمس لغات، لتكون "جسراً بين العاملين في الدراسات الشرقية في البلقان والمعنيين بها في الشرق والغرب"، بحسب رئيس تحريرها، الباحث والكاتب، محمد الأرناؤوط، في مقدّمة العدد.