يُقيم منصور والمسلحون المناصرون له، والذين يتراوح عددهم بين 30 و50 مقاتلاً، في الجامع. وقد انضم إليه أخيراً، عدد من اللاجئين السوريين. أعلن منصور مبايعته "دولة الخلافة الإسلامية والخليفة أبو بكر البغدادي". لا توجد معلومات تؤكّد وصول دعم مباشر من تنظيم "داعش" إلى منصور، لكن هذا غير مستبعد. في الأسابيع الأربعة الماضية، فجّر ثلاثة من أبناء طرابلس، أنفسهم في تجمّعات شيعيّة في العراق، تحت راية "داعش". أحد هؤلاء شاب، بالكاد تجاوز السنوات الثماني عشرة. هو ابن عائلة فقيرة جداً، ولا يعمل. قالت والدته لبعض أقاربها، إنّها رأت معه، قبل مغادرته لبنان، بضع مئات من الدولارات. لم تعرف عددها بالضبط. وحين استغربت وجودها، وسألته عنها، أجاب إن أحد أصدقائه ائتمنه عليها. أنهى الشاب امتحانات الثانويّة العامة، وغادر لبنان إلى تركيا عبر مرفأ طرابلس، ومنها دخل العراق، ونفّذ عمليته. من أين حصل على الأموال التي سمحت له بالسفر؟ هذا هو السؤال الأساسي، لمعرفة من ساعده، ومن جنّده. هل تمّ تجنيده في لبنان؟ أم عبر الانترنت؟ وهل لمنصور دورٌ في عمليّة تجنيد الشباب اللبناني الذي يتّجه الى القتال في صفوف "داعش"؟
كشفت التحقيقات الأمنية أخيراً، تورّط أحد أبناء طرابلس ممن ينتمون فكرياً، وربّما تنظيميّاً، إلى "داعش"، في التفجير الذي طال أحد أحياء المدينة في السابع من شهر أغسطس/آب الماضي، وأدّى إلى مقتل مواطن وجرح آخر.
أسئلة كثيرة لا أجوبة عنها حالياً. لا يبدو أن الأجهزة الأمنية الرسميّة اللبنانيّة، تضع منصور على رأس أولويّاتها. يتحرّك الرجل بشكلٍ علني، في منطقة باب التبانة. يُرسل تهديداته إلى رجال الدين الذين يُجاهرون بمواقف مناهضة لـ"داعش" وممارساته. يقول مسؤولو أجهزة الاستخبارات في الشمال، إنّ منصور هو المسؤول عن استهداف الجيش بالقنابل اليدويّة، لكنّ لم يتمّ اعتقاله بعد. في المقابل، يجري توقيف لاجئين سوريين، بشكلٍ يومي "بسبب الدخول خلسة إلى لبنان"، علماً أن نسبة كبيرة من السوريين دخلت لبنان خلسة، لأنها لم تستطع المرور على المعابر الرسميّة، لأنّها مطلوبة لدى النظام السوري، أو تتخوّف من اعتقالها عشوائيّاً.
لا تُخيف حالة منصور "العسكريين القدامى" في طرابلس. يقول أحد أهم المسؤولين العسكرييّن، الذين مروا على التنظيمات الإسلاميّة في طرابلس، إنّ حالة منصور غريبة عن المدينة. يؤكّد الرجل الستينيّ، أنّ طرابلس قادرة على نبذ هذه الحالات ومواجهتها إذا لزم الأمر، "لكن ما أقوله ينطلق ممّا أعرفه من معلومات لا أكثر". كيف ذلك؟ يستفيض الرجل بالشرح: "في السابع من شهر مايو/أيار 2008، سيطر حزب الله على بيروت خلال ساعات. حاصر (الرئيس) سعد الحريري و(النائب)وليد جنبلاط في منزليهما. لم تحتج طرابلس أكثر من ساعات، ليكون مئات الشبان جاهزين للقتال بما تيسّر". ويُضيف الرجل، أنّ الأموال السعودية الكثيرة التي صُرفت في الأيام القليلة، الفاصلة بين سيطرة حزب الله واتفاق الدوحة، أدّت إلى تسليح كبير في الشارع السنّي، "يكفي أن نُشير إلى أن سعر الكلاشينكوف ارتفع في أيام، من مئاتين وخمسين دولاراً إلى ألفي ومئتي دولار".
يذكر الرجل هذه التفاصيل، ليقول، إنّ أية جهة ترغب في تسليح الشارع السنيّ، ودفعه إلى حالة انتحار يُمكن لها ذلك، بسبب غياب الزعامة عن هذا الشارع. يُقارن بين الحالة السنيّة والحالة الشيعيّة: "لدى الشيعة زعيمان (أمين عام حزب الله) حسن نصرالله و(رئيس البرلمان) نبيه بري، هما قادران على ضبط الشارع بالكامل". لكنّه يؤمن أن "داعش" ليس من الجهات التي يُمكن لها أن تجرّ السنّة إلى التسلّح، "لقد بدأ هذا التنظيم بالانتهاء. بات السنّة يخافونه، مثل الشيعة، مثل أي كان". يُصرّ الرجل على أن قناعات هذه المجموعة هي التي تؤدي إلى نهايتها: "تكفير الجميع". يسكت قليلاً ثم يسأل: "ماذا لو فجّر هذا التنظيم عدداً من السيارات المفخّخة في طرابلس"؟. يُجيب نفسه: المدينة لا تحتمل الأمر".
يُقلّب الرجل الأمر من جميع زواياه، والخلاصة بالنسبة إليه، أنّ أفكاراً وتنظيمات مماثلة، مؤذية جداً، لكنها لا تستطيع أن تستمرّ. يذكر العديد من الشواهد من التاريخ الإسلامي. ثم ينتفض على نفسه: "كيف يُمكن لهم أن يُمثّلوا الإسلام، وهو الدين الذي حافظ على الكنائس؟".
ليس تنظيم "داعش" الخطر الأكبر بالنسبة إلى الرجل، بل "الصراع السني الشيعي". يفاجئ الجالسين: "حزب الله لا يُريد قتالاً مذهبياً. هو يُريد تعبئة مذهبيّة، تسمح له باستقطاب جميع الشيعة حوله، لكنه لا يُريد قتالاً لأنه يُدرك حجم الأذى الذي سيلحقه بسبب هذا القتال". ماذا عن السنّة إذاً؟ هل يُريدون القتال؟ يعود الرجل إلى نظريّته بأن غياب الزعامة يسمح لأيٍ كان، بقيادة الشارع السنّي إلى القتال، في حال توفّر السلاح أو المال.
يتذكّر الرجل الستيني بهدوء، جلسةً جمعته وآخرين، بنائب الرئيس السوري السابق، عبد الحليم خدام. في تلك الجلسة، سُئل خدام، لماذا يُريد الرئيس، حافظ الأسد، عدم التعاون مع حركة التوحيد، فجاء جواب خدام: "لا نريد سنيّاً قويّاً في لبنان". ويُضيف أن الأمر تكرر مع رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، الذي حُصرت زعامته في بيروت، ومُنع من فرض زعامته شمالاً وبقاعاً، وحتى في مدينته صيدا. وفي رأيه، لم ينتفض السنّة في لبنان لضرب حركة التوحيد، لكنهم انتفضوا لقتل رفيق الحريري، ولاحقاً لأحداث السابع من أيار. يعتقد أن السبب هو أنّ سنّة لبنان تحوّلوا إلى طائفة، مثلهم مثل بقيّة الطوائف: "يشعرون اليوم أنّهم مضطهدون ومظلومون وأن الجميع يستهدفهم. إنه الشعور الأقلوي. نحن لم نعد جزءاً من الأمّة، وهذا مقتلٌ".
"دعنا نخرج إلى الشارع قليلاً، ونسأل مجموعة فتيّة عن رأيهم في "داعش". أجزم أنهم معجبون بهذا التنظيم. سيخبرونك عن مدى قوته". يُعطي الرجل هذا المثل، للإشارة إلى الأثر الذي يتركه غياب الزعامة، وتحوّل جماعةٍ من أمّة إلى طائفة.
يعتقد الرجل أنّ تنظيم "داعش" سيدفع الناس الى اكتشاف الدين الحقيقي، مرة أخرى. لكن في المدينة عينها، يسأل شيخ سلفي عن موقف "الدواعش" منه. شيخ له تاريخه في طرابلس وفي لبنان، لكنه في العمق، بات يخشى تنظيم "داعش". يخشاه جسدياً. "وأخشى أن يبتعد الناس عن الدين بسببه، علينا (رجال الدين) أن نقوم بعمل مضاعف لحماية ناسنا وديننا من هذه الظاهرة".