ومن الناحية الواقعية، يقع تحت سيطرة التنظيم، الذي يعتبر من أغنى التنظيمات المسلّحة، مساحات شاسعة من الأراضي، تمتد من مدينة الباب، شرقي محافظة حلب في سورية، وعلى مسافة 670 كيلومتراً، وحتى سليمان بك في محافظة صلاح الدين في العراق.
ويتماشى إعلان "الخلافة" مع عقيدة التنظيم، التي تقضي بتطبيق الشريعة على أيّ بقعة جغرافية يتم السيطرة عليها، خلافاً للتنظيمات الجهادية الأخرى، مثل "جبهة النصرة" التي تقول بتثبيت أركان الدولة، وإعلان الخلافة، واستتباب الأمر لها، ومن ثم تطبيق شرع الله بعد توافق الناس على ذلك. وهذا ما يفسر عدم سعي "النصرة"، والتنظيمات الإسلامية الأخرى التي تقاتل النظام السوري، لتطبيق الشريعة في الأراضي التي سيطرت عليها، بل وضعت نصب عينيها الهدف الذي تتشارك فيه مع القوى المقاتلة الأخرى مثل "الجيش الحر"، وهو إسقاط النظام، ومن ثم يقرر الناس أمر دنياهم وطريقة حكمهم.
ويُعدّ إعلان "الخلافة"، بصورة أو بأخرى، استنساخاً لتجربة حركة "طالبان" في أفغانستان، التي أقامت "إمارة أفغانستان الإسلامية " تحت قيادة "أمير المؤمنين"، الملا عمر، بين عام 1996 وحتى الغزو الأميركي للبلاد عام 2001، وحظيت "الإمارة"، في تلك الفترة، باعتراف ثلاث دول وهي باكستان والسعودية والإمارات العربية المتحدة.
وخلافاً لإمارة الملا عمر، التي جاءت كمنقذ للبلاد من الصراع الأهلي بين القوى الجهادية التي طردت الروس من أفغانستان، تأتي خلافة البغدادي في ظل "رعب" إقليمي ودولي من سمعتها الدموية ومنهجها المتشدّد، ما يجعل قوتها العسكرية هي حاملها الوحيد تقريباً، فضلاً عن استثمارها في السخط الشعبي على نظامي الحكم الفاسدين في دمشق وبغداد، وعجز القوى الأخرى الموجودة في الساحة عن مواجهتهما.
يستند تنظيم "داعش" على الأطر الفكرية ذاتها، التي قام عليها التيار السلفي الجهادي، منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، والذي يقول إنّ الجهاد هو ضدّ العدو المحتل، وضدّ النظام الحاكم المبدّل للشريعة الإسلامية، ويحكم بالقوانين الوضعية، أو النظام المبالغ في الظلم والقهر.
بدوره، يقوم الجهاد المسلّح ضدّ الحكومات القائمة في بلاد العالم الإسلامي، أو ضدّ الأعداء الخارجيين على مبادئ الحاكمية (مبدأ الحاكمية لله، أي أن تكون مرجعية التشريع الوحيدة في الدستور والقوانين هي الشريعة الإسلامية، وإن الحكم والتشريع هو حق خالص للخالق، وأيّ إضافة بجانب الشريعة الإسلامية هي شرك وكفر بالله الخالق)، وقواعد الولاء والبراء (ويعني أن تكون الدولة قائمة على أساس إسلامي ديني، وليس شعوبي قومي، ولاؤها للإسلام والمسلمين، ومعادية للشرك والمشركين، تتبنى الإسلام في سياستها الداخلية، وهدفها في السياسة الخارجية إعلاء كلمة الله، وإقامة دولة إسلامية عالمية قوية، واعتبار الدول الأخرى إما إسلامية تحكم بالشريعة، أو ذمية تدفع الجزية أو معاهدة).
ويعتبر أبو محمد المقدسي، صاحب كتاب "ملّة إبراهيم"، والذي أُطلق سراحه قبل أيام من السجون الأردنية، المنظر الأول للسلفية الجهادية على مستوى العالم، وصنف من حيث الأهمية قبل بن لادن نفسه، الذي حل في مركز متأخر، أما المنظر الثاني فهو أبو قتادة الفلسطيني، صاحب كتاب "تأملات في المنهج"، الذي نشر في عام 1999، ثم أبو مصعب السوري، الذي استأثرت تنظيراته الجهادية باهتمام جميع مراكز الأبحاث والدراسات المعنية بالظاهرة الجهادية في العالم، والذي قيل إن دمشق أطلقت سراحه عام 2012 انتقاماً من واشنطن، التي ساندت للمعارضة السورية.
لكن "داعش"، وحتى وفق معايير التنظيمات الجهادية، ذهب بعيداً في تطرّفه وتشدّده، لناحية اعتبار نفسه المرجعية الوحيدة لتفسير الإسلام، واعتبار كل مخالف له مرتداً يستوجب قتله، ولناحية تركيزه على بناء الدولة الإسلامية، قبل أن تتوفر مقومات ذلك، خلافا لتنظيم "القاعدة"، الذي أعطى الأولوية لمحاربة أميركا، وشكّل مظلة جامعة للعاملين على هذا الهدف.
وفي بيان له من سجنه في الأردن، قبل نحو شهر من إطلاق سراحه، عبّر أبو محمد المقدسي عن غضبه من ممارسات "داعش"، التي اعتبرها متمردة على "شرعية" تنظيم "القاعدة" بزعامة أيمن الظواهري، ووصفه بأنه تنظيم "منحرف عن جادة الحق، باغ على المجاهدين، ينحو إلى الغلو، وقد تورط في سفك دماء المعصومين، ومصادرة أموالهم وغنائمهم ومناطقهم التي حرروها من النظام، وقد تسبب في تشويه الجهاد، وشرذمة المجاهدين، وتحويل البندقية من صدور المرتدين والمحاربين إلى صدور المجاهدين والمسلمين".
وقد أثيرت تساؤلات عديدة حول إطلاق سراح المقدسي، في الوقت الذي تشتد فيه الحملة العالمية على الجهادية السلفية، وفُسر الأمر بأنه محاولة من السلطات الأردنية لاسترضاء التيار الجهادي، واستخدام نفوذ المقدسي لصدّ تأثير "داعش" على الأوضاع الداخلية في المملكة، خاصة بعدما ظهر الأردن ضمن الخريطة التي كان "داعش" نشرها للخلافة الإسلامية الموعودة.
ومن غير المرجح أن يكون لإعلان الخلافة تأثير كبير على أرض الواقع، باستثناء زيادة شراسة التنظيم في قتال المجموعات الأخرى المجاورة له جغرافياً، ومحاولة أخذ بيعتها أو مقاتلتها، باعتبارها تعتدي على حدود الخلافة الإسلامية، خاصة في بعض الجبهات الساخنة من ريف حلب الشمالي وريف دير الزور، بعدما تمكنت "جبهة النصرة" وكتائب أخرى، من طرد "داعش" من مدينة البوكمال، التي تقابل مدينة القائم في الجانب العراقي، الواقعة تحت سيطرة "داعش".
وتتباين الآراء حول موقع النظام السوري في هذه الساحة، فهناك من الخبراء من يرى بأنه سوف يركب موجة مكافحة الإرهاب، ويعرض خدماته على القوى الكبرى، التي زادت تطورات العراق من حميتها بهذا الاتجاه، ولكن فريقا آخر يؤكد على أن أوراقه باتت مكشوفة، كونه يتحمل المسؤولية الأولى عن إطلاق هذا "البعبع".