اختيار الفيلم المصري القصير "حنة ورد" (2019)، لمصطفى مراد، في الدورة الـ42 (31 يناير/ كانون الثاني ـ 8 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة" (فرنسا)، أحد أهم المهرجانات الدولية المتخصّصة بالأفلام القصيرة، يستدعي التفكير في جوهر الفيلم وآفاقه الجمالية والتخييلية التي يُتيحها للمُشاهد، بل للسينما المصرية ككلّ. فالمهرجان يتلقّى سنوياً نحو 8500 فيلم من مختلف دول العالم، فتبدو الكتابة شائكة ومتشعّبة، ليس بخصوص الفيلم، بل بعلاقته بالمحيط الفرنسي والتمثّل الغربيّ للمجتمع المصري، وبالأسباب التي جعلت لجنة التحكيم تختاره، مع أنّه أول عمل لمراد.
تُبرز المَشاهد الأولى لـ"حنة ورد" ذكاء مصطفى مراد وقدرته على استلهام واقع المجتمع المصري، والغوص في عاداته وتقاليده الاجتماعية، لا كتأريخ وتوثيق، بل كطريقة فنية يمتحن من خلالها الغيريّة والهوية في عالم متغيّر داخل زمن واجتماع وجغرافيا محدّدة (مصر)، بوضعه حليمة في أوساط شعبية مصرية، ذات تقاليد عريقة. وحليمة امرأة سودانية تشتغل حنّانة، ترسم وتزخرف أيدي العروسات قبيل زفافهنّ، مُصطحبةً معها ابنتها الصغيرة ورد (7 أعوام).
مع بداية الفيلم، يُلاحَظ هاجس المخرج، المتمثّل بإقامة سرد بسيط تلقائي متدفّق داخل أمكنة وعائلات شعبية، يغوص فيها ببراءة، ويترك الكاميرا تتحرّك بانسيابية، وتلتقط ببطء حياة الناس وأحاديثهم وتحرّكاتهم التلقائية في الفضاء، من دون اكتراث بالحوار وقيمته، نافياً الأذن، ومعطياً قيمة أكبر للعين والكاميرا أثناء استكشافهما المكان وظلال ماضيه. كما يلتقط مَشاهد الفرح الذي يدبّ في مسام الجسد، عبر حركاتٍ وانفعالاتٍ ولعبٍ وحكي، كأنّ مصطفى مراد لا يريد حدوداً، ويعطي انطباعاً خفياً في أنّ السينما امتدادٌ للواقع. ثم يترك شخصياته، المنتمية إلى منطقة "نزلة السمان"، تتنقّل داخل عرش الصورة ومركزيتها، مُحتفلاً ببلاغة الهامش في حياة المواطن المصري وعاداته وتقاليده، إزاء الأفراح والأحزان.
اقــرأ أيضاً
بقدر ما يزداد الرقص واللهو وفرح المصريات، يرتفع منسوب الغربة في عينيّ الفتاة السودانية الصغيرة في البيت المصري، وهي تراقب واقعاً واجتماعاً غريبين عنها. لكن هذه النظرات الصغيرة الملتقطة تضمر خطاباً مجتمعياً كبيراً يتعلّق بغربة المرأة السودانية وألمها في المجتمع المصري اليوم. والمخرج لا ينفكّ يوجّه نقداً مزدوجاً للمجتمع وطريقة تعامله مع الآخر، المتمثّل هنا بالمرأة السودانية، الذي (المجتمع) يصفها كساحرة، كما تقول إحدى الشخصيات. لذلك، لا يتوانى مراد عن التركيز على مظاهر العرس، وغربة حليمة وابنتها داخل العائلة المصرية، وسوء الفهم، وأحكام القيمة والاحتقار والمذلّة، التي تتعرّضان له من العائلة.
من هنا تنبع قوّة الفيلم، واختياره من بين الأفلام المقدَّمة إلى "مهرجان كليرمون فيران". أحياناً، تتجاوز اللجان ما له علاقة بالفيلم وأبعاده الجمالية والتخييلية، لحرصها على الخطاب الفكري والسياسي المرافق له، ولجرأة مخرجه في ولوج عوالم وقضايا ومواضيع مسكوت عنها في بلده. ربما يعتبر البعض أنّ هذا الأمر مرتبط بأجندات لجان غربية، وحرصها الشديد على توجيه الخطاب السينمائي العربي إلى ما يخدم سياستها وصناعتها. لكنّ مصطفى مراد يتجاوز هذا، عاملاً في فيلمه على تأجيج النقاش، ومحتجّاً بكاميرته على الواقع والاجتماع المصريين وتمثّلاته الخاطئة عن المرأة السودانية، وإمكانية وضرورة إقامتها وعيشها بحرية في المجتمع المصري، بعيداً عن أيّ نظرة متعالية أو تحقيرية، من شأنها أنْ تزيد في تقزيم صورتها، وتأجيج غربتها، ومنع حقّها في العيش.
مع بداية الفيلم، يُلاحَظ هاجس المخرج، المتمثّل بإقامة سرد بسيط تلقائي متدفّق داخل أمكنة وعائلات شعبية، يغوص فيها ببراءة، ويترك الكاميرا تتحرّك بانسيابية، وتلتقط ببطء حياة الناس وأحاديثهم وتحرّكاتهم التلقائية في الفضاء، من دون اكتراث بالحوار وقيمته، نافياً الأذن، ومعطياً قيمة أكبر للعين والكاميرا أثناء استكشافهما المكان وظلال ماضيه. كما يلتقط مَشاهد الفرح الذي يدبّ في مسام الجسد، عبر حركاتٍ وانفعالاتٍ ولعبٍ وحكي، كأنّ مصطفى مراد لا يريد حدوداً، ويعطي انطباعاً خفياً في أنّ السينما امتدادٌ للواقع. ثم يترك شخصياته، المنتمية إلى منطقة "نزلة السمان"، تتنقّل داخل عرش الصورة ومركزيتها، مُحتفلاً ببلاغة الهامش في حياة المواطن المصري وعاداته وتقاليده، إزاء الأفراح والأحزان.
بقدر ما يزداد الرقص واللهو وفرح المصريات، يرتفع منسوب الغربة في عينيّ الفتاة السودانية الصغيرة في البيت المصري، وهي تراقب واقعاً واجتماعاً غريبين عنها. لكن هذه النظرات الصغيرة الملتقطة تضمر خطاباً مجتمعياً كبيراً يتعلّق بغربة المرأة السودانية وألمها في المجتمع المصري اليوم. والمخرج لا ينفكّ يوجّه نقداً مزدوجاً للمجتمع وطريقة تعامله مع الآخر، المتمثّل هنا بالمرأة السودانية، الذي (المجتمع) يصفها كساحرة، كما تقول إحدى الشخصيات. لذلك، لا يتوانى مراد عن التركيز على مظاهر العرس، وغربة حليمة وابنتها داخل العائلة المصرية، وسوء الفهم، وأحكام القيمة والاحتقار والمذلّة، التي تتعرّضان له من العائلة.
من هنا تنبع قوّة الفيلم، واختياره من بين الأفلام المقدَّمة إلى "مهرجان كليرمون فيران". أحياناً، تتجاوز اللجان ما له علاقة بالفيلم وأبعاده الجمالية والتخييلية، لحرصها على الخطاب الفكري والسياسي المرافق له، ولجرأة مخرجه في ولوج عوالم وقضايا ومواضيع مسكوت عنها في بلده. ربما يعتبر البعض أنّ هذا الأمر مرتبط بأجندات لجان غربية، وحرصها الشديد على توجيه الخطاب السينمائي العربي إلى ما يخدم سياستها وصناعتها. لكنّ مصطفى مراد يتجاوز هذا، عاملاً في فيلمه على تأجيج النقاش، ومحتجّاً بكاميرته على الواقع والاجتماع المصريين وتمثّلاته الخاطئة عن المرأة السودانية، وإمكانية وضرورة إقامتها وعيشها بحرية في المجتمع المصري، بعيداً عن أيّ نظرة متعالية أو تحقيرية، من شأنها أنْ تزيد في تقزيم صورتها، وتأجيج غربتها، ومنع حقّها في العيش.