"حكاية" عبير نعمة... سردٌ في ثماني أغانٍ

20 أكتوبر 2019
يلجأ العمل إلى حلول النمطية في الإطار الغربي (فيسبوك)
+ الخط -

إن صِرت حبيس سيارتك على الطريق البحرية من بيروت باتجاه جونية صعوداً إلى الجبل، نوافذك مغلقة، إما لحرّ الصيف ورطوبة الهواء، أو لضجيج المطر في برد الشتاء، والسير أمامك جامدٌ جمود زحمة لا تلوح لها نهاية إلا بجرود كسروان، عليك إذاً وصل هاتفك المحمول بمكبرات الصوت والاستماع أونلاين إلى ألبوم عبير نعمة الجديد، "حكاية". فإنه، بكل تأكيد، سيأخذك إلى عالم آخر.

عالم سحري، بهيّ ورومانسي، بالأخص مع الأغاني الثلاث الأولى، يُذكّر بأجواء الفيلم الأميركي "لا لا لاند" (2016)، تخلقه عبير بصوتها الفذّ والفريد، وبعلوّ سوية طاقم التلحين والتوزيع والأداء والإنتاج المُشارك في الألبوم؛ الذي صدر أخيراً عن شركة Universal Music Mena، مؤلّفاً من ثماني أغانٍ، الرئيسية صاحبة عنوانه "حكاية"، أُنتج لها فيديو كليب مصوّر، أخرجه فراس صفا.

تسير الأغاني على نهج التجديد من طريق التقليد، الذي ميّز الصناعة الفنية في لبنان منذ الاستقلال، إذ سمحت أجواء الانفتاح الاستثنائية عربياً، للّبناني بمواكبة دقيقة، وبفارق زمني لا يكاد يُذكر، لأحدث تنميطات الغرب، سواء في الفن أو الموضة، استثمرت في إبداع أعمال عصرية تستلهم التُراث، من دون المُجازفة في إحداث خروق ثورية نوعية في القولبة وطرق التلحين والمعالجة التوزيعية.

تلك الحلول النمطية في الإطار الغربي، والتجديدية في الإطار العربي، تتجلّى من خلال الجمل الهارمونية المعقدة والموزّعة أفقياً للوتريات على طريقة أوركسترا الجاز السيمفونية، التي طالما ميّزت ألوان الميوزيكال؛ المسرح أو السينما الغنائيين في أميركا، سواء في برودواي نيويورك، أو هوليوود كاليفورنيا. بيد أن الأكثر جدّةً بين النمطيّات في هذا الألبوم، إدخال المؤثرات الإلكترونية.

لعل أغنية "وينك"، والحق هنا يُقال، هي الوحيدة الخارقة للعادة، قد أحسن من اختارها فاتحةً للألبوم، وأصاب قبل عام مَن منحها جائزة أفضل أغنية لبنانية في مهرجان "موركس دور". كلمات جرمانوس جرمانوس وألحان مروان خوري. بنبرة كـ "توبة" لعبد الحليم حافظ، تسأل عبير: وينك؟ تتساءل معها الوتريات نقراً بالأصابع Pizzicato ومعها الإيقاعات بترقّب وتعارض. دفق من أوتار القانون يعبر بالأسئلة إلى متن الأغنية.

"في عصفور" أغنية عذبة صافية، سواء بالكلمات التي ساهمت بها زميلة عبير نعمة ومواطنتها، المُغنية تانيا صالح، أو بالألحان التي اشترك في كتابتها كل من عبير وجورج نعمة. التوزيع بنكهة الجاز الأوركسترالي، تضطلع آلات الفلوت النفخية بأدوار تمثيلية تُحاكي فيها أصوات العصافير، تُرافقها الإيقاعات على نبض الرومبا الكوبيّ والرقّ الشامي. بينما تطير عبير بين الألوان الصوتية.

في "حكاية"، من كلمات غسان مطر وألحان جوليو عيد، عودة نوستالجيّة إلى الأغنية الشاعرية اللبنانية، إلى حقبة الثمانينيّات والتسعينيّات، والمتأثرة بدورها بالأغنية الفرنسية. صدى من سبق كجورجيت صايغ، وعازار حبيب، وسامي كلارك، ثم جيل تلا كماجدة الرومي وجوليا بطرس. استكمالُ طريق حداثة لبنانية بدأت رحبانية ثم انقلبت تُراثاً خاصاً، يُحييه اليوم أمثال مروان خوري، وتانيا صالح وعبير نعمة.

"كرمالي"، من كلمات جرمانوس جرمانوس وألحان شربل روحانا. أغنية أُريد لها أن تُسمع في الإطار الشرقي، مستميلةً السوق الخليجية بالارتدادات الوتريّة، التي تُسمع مُنمّقةً للفراغ في الخلفية، إضافةً إلى الجو البياتي العام. محاولات جريئة وإن جاءت خافتة لتزويد المقام الشرقي ببطانة هارمونية. تبقى الأغنية خارجة عن مزاج الألبوم، مُرتفعة الصوت، حادة النبرة، لا تستميل المشاعر.

"تلفنتلّك" كلمات جرمانوس جرمانوس وألحان إيلي نعمة، استعادة لروح أغنية جوليا بطرس "يا قصص". حضور لمجموع الوتريات تنسج المُقدمة، بالأسلوب الشرقي لأغنية البوب العربية والتركية، إذ تلعب دور قنطرة آلية، أو هو تسليم يصل بين المذاهب والأبيات. تُقدّم عبير المذهب بصوتها، ومن ثم، ومن باب التنويع والإضافة، تُعيده جوقة من الأصوات النسائية. الإيقاع "بلوز" مُطعّم بالمقسوم.

موال المقدّمة لأغنية "ودّعت الليل" كلمات مُنير بو عسّاف، توزيع بلال الزين، تُطلقه عبير حاملاً في طيّاته روح المُغنّي الكويتي عبد الله الرويشد وأسلوبه. تكمل الأغنية من بعد ذلك حالما تشرع عبير في المذهب، شرقية خالصة بأسلوب البوب المصري. تتخلل الأغنية انتقالات مقامية، تُنعش الأذن وتُخفف عنها قليلاً سمة الرتابة والتكرار، تلعب الكمانات فيها دوراً بالكاد أن يُضفي أيّ جديد.

في "كل ما تقلّي"، من كلمات جرمانوس وألحان وسام كيروز، عودة إلى عذوبة أغاني الألبوم الأُوَل. على بساط هارموني تحوكه آلة البيانو بأسلوب الكلاسيك بوب والآر أند بي، تغنّي عبير، ليست وحدها هذه المرة، ولا برفقة مغنٍّ، بل بصحبة آلة تشيلو مُنفرد؛ تُحاكي غناء عبير تارة، وتارة تنوُّع عليه، مُعززةً بذلك النسيج الهارموني، كما تنفرد أيضاً بوصلة تُضفي على الأغنية مزيداً من الخصوصية.

"في سفري"، من ألحان بسام كيروز لأبياتٍ من قصائد المتنبي، خاتمة الألبوم، أشبه بتأصيل يعود بعبير نعمة إلى مدرسة الغناء الشرقي الكلاسيكي التي أتت من رحمها. تنويع على إيقاع الموشّحات، مُطعّم بأكورديون ذي نكهة رحبانية، وأطياف أوركسترالية مُصاحبة أغلبها وتري تقوده آلة كمان مرّات مُنفردةً. تفتقر الأغنية إلى هيكلٍ قالبي يمدّها بالوحدة والتماسك، وبمقوّمات الحضور والبقاء.

التنويع في الألوان الغنائية بغية إرضاءِ أوسع شريحة من المستمعين على امتداد سوق شاسعة بمساحة العالم العربي؛ يبقى سياسة ثابتة لدى كل شركة منتجة عند إصدار أيّ ألبوم، مهما علت قامة النجم الفنان أو انخفضت. التنوّع بالمقابل صفةٌ حميدة، شرط ألا تخلّ بشخصية الألبوم واتّساقه. إن التنوع في إطار الوحدة هو الصيغة الأبقى والأرفع قيمة، ولو على الأقل، من الناحية الفنية والجمالية.

المساهمون