نادراً ما نرى عملاً فنياً على مسارح نيويورك يدور حول حياة خمس نساء مسلمات، أو حتى يتمحور حول رحلة شخصيات متديّنة وصراعاتها الاجتماعية والدينية الداخلية، فما بالك إن كان الأمر يتعلق بشخصيات مسلمة. فالمسرح الحديث على خشبات نيويورك يدور في فلك قضايا اجتماعية وسياسية، ويحدث أن تطرق في بعض الأحيان إلى أمور دينية أو شخصيات متدينة مسيحية أو يهودية.
لكن نادراً ما نرى مسرحية تتعامل مع تجربة نساء مسلمات في الطريق إلى أداء فريضة الحج وتأخذها في سياقها الديني والتجربة الروحية من جهة وجانبها الاجتماعي من جهة أخرى.
مسرحية "حكايات مكة" للكاتبة راهينا مالك ومن إخراج الكندي المصري كريم فهمي واحدة من تلك اللفتات المثيرة التي استضافها مركز "شين" مؤخراً في نيويورك لعرضها وعلى مدار عشرة أيام. تخللت المسرحية مقاطع لموسيقى صوفية واقتباسات متعلّقة بفريضة الحج من القرآن والحديث النبوي والفكر الصوفي، وتحديداً مقتبسات من جلال الدين الرومي.
لا يطرح العمل قضايا تتعلق بالدين الإسلامي فقط، وإن تعامل مع حياة خمس نساء مسلمات كمظلّة، لكن القصص والفروقات الطبقية والصراعات الداخلية التي تواجها الشخصيات هي في نهاية المطاف صراعات داخلية وروحانية لا تدور في فلك دين دون غيره.
تدور أحداث المسرحية حول خمس نساء من خلفيات متنوعة، من بينها لاجئة عربية تعيش في الولايات المتحدة بعدما اضطرّت للهرب من بلادها بسبب الحرب، وامرأة من أصول باكستانية من طبقة غنية، وأخرى أميركية مسلمة من أصول أفريقية وأخريات غيرهن، تجمعهنّ رحلة الحج على اختلاف خلفياتهم الطبقية والاجتماعية. في الطريق تتعطل الحافلة وتبدأ النساء الخمس بالتعرف على بعضهنّ البعض بشكل أفضل وسرد حكاياتهن وما الذي أتى بهن لأداء الفريضة.
لا يحدث التقارب بين النساء الخمس بسلاسة ودون توترات كما أن علاقة كل واحدة منهن بالدين ومعناه بالنسبة لها تختلف كما اختلاف البشر. تأخذ المسرحية المُشاهد إلى محطات في فريضة الحج ومعانيها الرمزية الدينية بشكل عام، ومعناها لكل واحدة من النساء الخمس وانعكاسها على حياتها.
تركيبة الشخصية واختلافها وتنوّعها أثرى المسرحية وانعكس في اختيار الممثلين الستة كذلك (خمس ممثلات وممثل). وهذا ما عبروا عنه خلال النقاش معهم والذي تبع عرض المسرحية.
يقول الممثل لويس سلان، وهو أميركي من أصل عراقي، حول تجربته "إن أغلب الأدوار التي يتم استدعائي لتأديتها غالباً ما تكون متعلقة "بالإرهاب" وفجاة أؤدي هنا أكثر من دور "عادي" لشخصيات مختلفة تظهر بكل تعقيداتها. ما جذبني في المسرحية هو تعاملها مع حيوات أناس نادراً ما نراها معروضة على المسارح الأميركية، حيوات عرب ومسلمين عادية بكل تعقيداتها".
أدى سلان، أدواره المختلفة ببراعة ملفتة وحيوية وكان له أكثر من دور، حيث اعتمد المخرج على أن يقوم الممثلون بتأدية أدوار جانبية غير أدوارهم الرئيسية لأسباب مادية، على ما يبدو، ولكن ذلك أظهر براعة الممثلين وقدرتهم على الانتقال بسرعة في تأدية أدوار مختلفة متناقضة في نفس العمل.
أما الممثلة مريم حبيب، وهي أميركية من أصول مصرية، فقد أدت دور مايا؛ مهاجرة من بلد عربي أنهكه الحرب دون الإشارة إلى بلد بعينه. وقالت حبيب حول اشتراكها في المسرحية "لقد رأيت الإعلان وبحثهم عن أكثر من امرأة في أدوار رئيسية للتمثيل وكان هذا مثيراً ونادراً، حتى في المسارح الأميركية، حيث قليلاً ما نرى عملاً مسرحياً فيه هذا الكم من النساء في أدوار رئيسية وكذلك من الأقليات".
تضيف "تعلّمت الكثير عن الشخصية الرئيسة التي قمت بتأديتها، مايا، هذه المسرحية مكتوبة بشكل جميل وأحببت هذا التعدد والاختلاف في الشخصيات".
استوحت كاتبة المسرحية، راهينا مالك، عملها من قصص ومقابلات أجرتها مع نساء من خلفيات مختلفة ومن خلال عملها ضمن مشاريع فنية سابقة لها. وتعيش مالك في شيكاغو الأميركية وتعدّ من كتاب المسرح المرموقين، وقد ولدت في لندن، لعائلة من جنوب آسيا، وعاشت في العاصمة البريطانية قبل الانتقال للعيش في شيكاغو.
تمكنت مالك من عرض صورة مركبة ومقنعة عن شخصياتها النسائية الخمس، ربما ساعدها في ذلك فريق الممثلين حيث أنهم جميعاً من "الأقليات" في الولايات المتحدة، وكون الشخصيات التي يؤدّونها قريبة منهم فمن المؤكّد أن كانت لهم إضافاتهم الفنية عليها.
أنتج مسرحية "حكايات مكة" مركز "مسرحيو شيكاغو" (شيكاغو دراماتيستس) و"مركز شيكاغو لتطوير المسرحيات الحديثة" وسبق أن رشحت لـ "جائزة جيف" عام 2015 حين بدأ عرضها في شيكاغو. وهي من الجوائز المهمة التي تعطى لأعمال مسرحية تُعرض على خشبات المدينة ضمن فئات مختلفة.
لا تنشغل المسرحية بتجميل صورة الإسلام أو شرحه، وإن بشكل جزئي لتعاملها مع جمهور لا يعرف عن المسلمين وحياتهم الكثير، إلا أنها في النهاية لا تقع بذلك المطب بشكل كبير وتبقي على عمق الشخصيات وتعقيدها.
وعلى الرغم من أن عرض مسرحية من هذا القبيل في الولايات المتحدة يأتي في ظرف متوتر، إلا أن الفريق حرص أن يحافظ العمل على فنيته وقدرته الإبداعية وألا يكون مجرّد رد على تصعيد وعنصرية تشهدها الولايات المتحدة بشكل مكثف ضد سكانها من العرب والمسلمين منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمر 2001. هذا العمل المسرحي يذكّرنا بأميركا أخرى تعيش على الهامش وقليلاً ما نسمع عنها في الإعلام السائد داخل البلد أو خارجه.