يعتبر الأميركيون أن أعضاء المحكمة العليا التسعة أكثر الأشخاص في البلاد قوة وتأثيراً على سير حياتهم من بين جميع أهل السلطة. ولهذا أحدثت وفاة عضو المحكمة أنطونين سكاليا (80 عاماً) هلعاً له ما يبرره لدى قطاع واسع من التيار المحافظ في الولايات المتحدة وأنصار الحزب "الجمهوري"، كون الرجل كان عُين في عضوية المحكمة العليا من الرئيس الجمهوري الأسبق، رونالد ريغان، عام 1986، أي أنه محسوب على التيار المحافظ. إضافة إلى أن وفاة سكاليا جاءت في ظل وجود رئيس ليبرالي في البيت الأبيض، ستقع على عاتقه مسؤولية اختيار البديل، وهو باراك أوباما. ويخشى الجمهوريون أن يؤدي خياره إلى الإخلال بالتوازن القائم حالياً بين المحافظين والليبراليين في المحكمة، بما قد يؤدي إلى إصدار أحكام راديكالية تعزز حقوق المثليين والنساء والأقليات وتقلل من هيمنة مراكز النفوذ والقوة والثروة.
لكن بما أن الجمهوريين يهيمنون على مجلس الشيوخ الأميركي، فمن المستبعد جداً أن يصادقوا على بديل يختاره أوباما في سنة انتخابية حاسمة، لأن ترك الخيار لأوباما لا يعني في نظر الجمهوريين سوى ترسيخ الغلبة في المحكمة العليا للتيار الليبرالي؛ إذ تشمل المهام الدستورية لأعضاء المحكمة العليا التسعة حسم أي خلاف انتخابي أو لعب دور ترجيحي في حالة تساوي الأصوات وإصدار أحكام تفسيرية لأي قضايا خلافية تتعلق بالدستور أو القانون، فضلاً عن الفصل في أهلية بعض المرشحين المحتملين للرئاسة، في حال تطلب الأمر ذلك.
قوة مستمدة من الدستور
يستمد هؤلاء الرجال التسعة قوتهم من الدستور الأميركي الذي يمنحهم صلاحية النظر في جميع القضايا التي تتناول السفراء والوزراء المفوضين والقناصل، والنزاعات التي تنشأ بين اثنتين أو أكثر من الولايات، وبين إحدى الولايات ومواطني ولاية أخرى، وبين مواطني ولايات مختلفة، وبين مواطني نفس الولاية ممن يدعون ملكية أراض بموجب منح من ولايات مختلفة، وبين ولاية أو مواطنيها ودول أجنبية أو مواطني دول أجنبية أو رعايا أجانب.
كما يمنح الدستور الأميركي القضاة التسعة عملاً مضموناً مدى الحياة وحصانة مدى الحياة من العزل أو الفصل أو التعرض لأي نوع من العقاب على أي قرار يتخذونه، وذلك بغرض إشعارهم بالأمان وهم يتخذون القرارات وإصدار الأحكام الدستورية الحاسمة، دون أن يكون بمقدور أي سلطة إيقافهم من العمل باستثناء سلطة الموت أو سلطة زملائهم في المحكمة في حالة استثنائية واحدة هي ظهور سلوك فاضح أو تقديم استقالة طوعية.
كما ينص الدستور الأميركي على إعطاء قضاة كل من المحكمة العليا والمحاكم الأدنى رواتب مجزية تعفيهم من قبول الرشى، ولا يجوز إنقاص معاشاتهم أثناء استمرارهم في مناصبهم مطلقاً.
هذا الأمان الوظيفي لا يتمتع به لا الرئيس نفسه ولا أعضاء الكونغرس، لأن وظيفة الرئيس مؤقتة، إذ إنها مرتبطة بمدة ولايته هي أربع سنوات يمكن تجديدها لأربع سنوات أخرى. أما أعضاء مجلس النواب فالمدة تقل إلى سنتين قابلة للتجديد بعناء مستمر. ويخف هذا العناء قليلاً لدى المنتخب لعضوية مجلس الشيوخ، إذ إن مدة خدمته تزيد عن مدة خدمة أعضاء مجلس النواب وعن مدة خدمة الرئيس، كون السيناتور ينتخب لفترة ست سنوات متواصلة، قابلة للتجديد. أما عضو المحكمة العليا فلا يصل إلى موقعه بعناء الانتخابات نهائياً بل باختيار الرئيس له وبعلاقاته الحسنة مع الحزب الحاكم.
وإذا كان من صلاحيات الرئيس أن يختار المرشح لعضوية المحكمة العليا لملء الفراغ فإن هذه الصلاحية تنتهي بمجرد مصادقة مجلس الشيوخ على التعيين، وبعد ذلك تنتزع منه سلطة العزل أو المساءلة التي يمارسها مع الأشخاص المعينين لمناصب أخرى غير القضاء.
وبما أن القضاة لا ينتمون في العادة إلى الأحزاب، فإن التوجه السياسي والأيديولوجي لهم يستنبط فقط من سيرة حياتهم، ومن الأحكام القضائية التي أصدروها في محاكم أدنى إلى جانب هوية الرئيس الذي اختارهم لعضوية المحكمة إن كان ديمقراطياً أم جمهورياً.
وقبل وفاة القاضي سكاليا كان هناك نوع من التوازن داخل المحكمة، إذ كان يوجد فيها أربعة قضاة معروفين بميولهم الليبرالية وأربعة قضاة معروفين بميولهم المحافظة، بينما يوجد قاض واحد فقط يتأرجح رأيه بين المحافظة والليبرالية. وعندما وافقت المحكمة العليا على إجازة زواج المثليين اتضح للأميركيين أن الغلبة في المحكمة العليا بدأت تتجه لصالح الليبرالية. وبمجرد أن أعلنت وفاة سكاليا، وهو أحد المحافظين الأربعة، استشعر الجمهوريون بالخطورة، لأن من مهام أعضاء المحكمة الحسم في أي خلاف انتخابي أو تساو في الأصوات وإصدار أحكام تفسيرية لأي مادة خلافية في الدستور أو القانون.
وعندما بادر أوباما إلى تعزية الشعب الأميركي بوفاة القاضي الفقيد، كان من اللافت أنه لم يكتف بالتعزية بل تطرق إلى حقه الدستوري في ترشيح البديل، قائلاً، إن ذلك سيتم في وقت قصير. ونكأ أوباما جراح الجمهوريين حين طالب مجلس الشيوخ منح المرشح المقبل الفرصة الكاملة والعادلة من جلسات الاستماع والمصادقة على تعيينه، وكأن أوباما يلمح سلفاً إلى أن الجمهوريين في مجلس الشيوخ لن يوافقوا على اختياره، إلا إذا تماشى الاختيار مع أهوائهم.
وبما أن غالبية أعضاء المحكمة العليا أصبحوا متقدمين في السن، فإن الحزبين الكبيرين وضعا في حسبانهما البديل لكل عضو من الأعضاء التسعة في حال شغور مكانه. ولعلّ أحد الأسباب التي تجعل انتخابات الرئاسة الأميركية مصيرية، هذا العام، هي أن وجود الرئيس المقبل في البيت الأبيض سيتزامن مع أكبر حركة تعيين لأعضاء المحكمة العليا، إذ يُرجح ألا تساعد ظروف المرض والتقدّم بالسنّ على بقاء غالبيتهم سوى بضع سنوات إضافية.
خيارات أوباما
من المبكر التكهن بهوية الشخص الذي سيقع عليه خيار الديمقراطيين لشغل مكان سكاليا، ولكن من خلال متابعة المناورات السياسية الداخلية التي يجيدها أوباما، يتوقع أن يلجأ إلى خيار من اثنين: الأول أن يرشح شخصية وسطية يقبل بها الجمهوريون، والثاني أن يختار أحد قضاة أقصى اليسار الأيديولوجي ليرفضه الجمهوريون، ثم يقدم بديلاً يكون أقل حدّة نحو اليسار، وبالتالي فقد ينجح أوباما في فرض الشخصية الثانية بعد أن يكون الجدل قد استهلك وأنهك الجمهوريين بشأن الشخص الأكثر ليبرالية. ولا يستبعد أن يعمل الجمهوريون كل ما في وسعهم لإطالة معركة التصديق على البديل الذي يختاره أوباما، على أمل أن يتم التعيين في عهد الرئيس الأميركي المقبل الذي قد يكون جمهورياً.
وكانت صحيفة محلية في مدينة سان أنطونيو بولاية تاكسس هي أول من نشر نبأ الوفاة، وقالت إنها حدثت أثناء وجود القاضي المتوفي في أحد منتجعات ولاية تاكسس.
اقرأ أيضاً: المرشحون الأميركيون الخمسة: سباق الجنس والدين والمواطنة والعرق والمهنة