يحلم الطفل جعفر أن يكون مثل حسون الذي يكسب في الشهر الواحد ما لا يتمكن الدكتور أحمد من جنيه. حسون والدكتور شخصيتان متناقضتان، لكنّهما يعيشان في بال الطفل الذي لا يتجاوز عمره السنوات التسع. يقلّب أحوالهما ويختار في من يتمثّل.
يمضي جعفر يومه في غسل السيارات في مرآب بوسط بغداد. اعتاد خلال عمله أن يرى الدكتور أحمد فتبيّن له أنّه ليس طبيباً يعالج الناس، بل أستاذ جامعي. يقول: "كم هو محترم، يحبني كثيراً ويدفع لي إكرامية، حتى إن لم يطلب مني تنظيف سيارته. ينصحني باستمرار بالعودة إلى مدرستي.. هو يريدني أن أكون مثله دكتوراً".
لكنّ جعفر يستهويه حسون أكثر بحسب ما يقول لـ "العربي الجديد". فحسون الذي يكبر جعفر بخمسة أعوام "يكسب في الشهر الواحد أكثر مما يكسبه الدكتور أحمد. "كان يعمل مثلي في غسيل السيارات، لكنه تعرّف منذ نحو سنة على أشخاص بات يعمل معهم. هو يقول، إنّ عمله سهل ومربح، مع أنّني لا أعرف ما الذي يفعله بالضبط".
"أطفال الشوارع" و"الأطفال المشردون" عبارتان تتداولهما قاعات المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في مؤتمرات وندوات واجتماعات تشخيص ظاهرة خطيرة باتت تستحضر الخوف لمن يطلع على قصص لا حصر لها لفئة لا يستهان بها من المجتمع العراقي.
لكن، وبحسب الباحث في علم الاجتماع، باسم الجنابي، الذي يعمل مع منظمات المجتمع المدني في مجال حماية الطفولة، فإنّ "كلّ ما يطرح من أسباب ودوافع ودراسات للتعريف بالحلول اللازمة للتغلب على ظاهرة أطفال الشوارع المخيفة يبقى داخل تلك القاعات المغلقة، ولا ينفذ".
يكشف الجنابي أنّ "ذلك النموذج من الأطفال، يبتعد مجبراً إلى حدّ كبير عن المبادئ والقيم الفاضلة. وهو ما يجعلهم فريسة سهلة للعصابات والمليشيات المسلحة من أجل تنفيذ مآربها من خلالهم. بل يصل الأمر إلى حد استغلالهم جنسياً من العصابات الكثيرة الناشطة في العراق، خصوصاً في السنوات الأخيرة".
في هذا الإطار، يقول المحقق الجنائي في وزارة الداخلية العراقية، وليد العبيدي، لـ"العربي الجديد" إنّ "الكثير من عمليات السرقة وتجارة المخدرات تعتمد على الأطفال. بل يصل الأمر إلى حدّ توريطهم بارتكاب جرائم قتل، منها إلصاق عبوات ناسفة صغيرة أسفل سيارات يجري استهداف أصحابها.. وكلّ هذا مقابل مبلغ مالي بسيط".
على الصعيد الشعبي، ينتاب الرعب كثيراً من العائلات اللواتي تخشى على أولادها من الضياع على الرغم من توفير كافة الاحتياجات لهم. وهو ما تعبر عنه المواطنة زينب عبدالرحمن، التي تحرص على أخذ أطفالها إلى مدارسهم بنفسها، كما تستقبلهم عند باب المدرسة عند انتهاء الدوام.
تقول لـ "العربي الجديد" إنّها تحرص على عدم خروجهم من البيت إلاّ بصحبتها أو بصحبة والدهم. تضيف: "الوضع خطير جداً، أخاف على أطفالي من أن يجرفهم أطفال الشوارع الذين يملكون موهبة في كسب الصداقات وإقناعهم بأفكار فاسدة تؤدي بهم إلى الشارع بدورهم".
من جهته، يؤكد الجنابي أنّ "نسبة أطفال الشوارع مستمرة في الارتفاع، بسبب ما يمرّ به العراق من عنف، منذ احتلاله عام 2003، وما أعقب ذلك من أحداث طائفية". كما يلفت إلى أنه "لا وجود لعدد محدد لكنهم يقدرون بالآلاف". يتابع: "كثير من الأطفال وجدوا أنفسهم في الشارع بسبب عائلاتهم التي أخرجتهم من المدارس ودفعتهم إلى سوق العمل، بفعل ظروف الحياة القاسية". يأتي هذا خصوصاً أنّ "عائلات كثيرة فقدت معيلها في التفجيرات والاغتيالات الإرهابية بالترافق مع التهجير القسري المستمر حتى اليوم". يحذر الجنابي من "كارثة كبيرة تواجه قطاع الطفولة في العراق.. فهؤلاء الصغار بات كثير منهم مجرمين في سنّ صغيرة، والجريمة لا بد أن تكبر معهم كلما كبروا".
الشارع مدرستهم
يشدد الباحث الاجتماعي باسم الجنابي على تسمية "أطفال الشوارع" التي يمتعض منها زملاؤه، فهم يرونها مسيئة للأطفال الذين يعتبرونهم من العمال. لكنّه يؤكد أنّ "التسمية حقيقية فالأطفال تحتضنهم الشوارع، لا المدارس. بات الشارع مدرستهم، يصارعون فيه قساوة الحياة للتغلب عليها بشتى الطرق".
اقرأ أيضاً: اليوم العالمي لأيتام الحروب وقفة لمراجعة الحسابات