عقب هجمات 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في باريس، وبمعزل عن الضجيج الإعلامي، نشط الباحثون الفرنسيون في العمل على ظاهرة "الجهاديين" الفرنسيين والأوروبيين وتحليل أبعادها.
نقف هنا عند مقاربتين لكل من المستشرق أوليفييه روا في مقاله "الجهادية ثورة جيلية وعدمية" (صحيفة "لومند")، وبيتر هارلينغ في مقال بعنوان "قتل الآخرين وقتل الذات ـ هجمات باريس" (موقع "أوريون 21").
يرى روا أن قراءتين للهجمات تهيمنان اليوم على وسائل الإعلام الفرنسية؛ الأولى تتوسّل مقولات صراع الحضارات وعجز الإسلام عن الاندماج في المجتمعات الغربية، على الأقل ما لم يتعرّض لإصلاح ومراجعة جذريين، والثانية تعيد الهجمات إلى جروح الاستعمار وتماهي المسلمين الشبان مع القضية الفلسطينية، ورفضهم للتدخلات الغربية في "الشرق الأوسط" والإقصاء الذي يتعرّضون إليه في مجتمع فرنسي عنصري وإسلاموفوبي.
يعتبر روا أن القراءتين خاطئتان؛ فلو كانت الأسباب بنيوية وتنطبق على كل المسلمين، فكيف يمكن تفسير ألا تتجاوز الظاهرة شريحة بالغة الضيق تعيش على هامش الجالية المسلمة، أي بضعة آلاف من الأفراد جميعهم مسجّلون في ملفات أجهزة الأمن من بين ما يقارب خمسة ملايين مسلم فرنسي؟
وكيف يمكن تفسير النسبة الوازنة والمتزايدة من "الفرنسيين الصفوة" بين الجهاديين، خصوصاً وأن معظمهم يأتي من القرى الفرنسية ولم يسبق له أن احتك بالجالية المسلمة قبل اعتناقه الإسلام؟
كما أن القراءتين تتعارضان -وفقاً للكاتب- مع "بروفايل" الجهاديين الفرنسيين الذين ينتمون إلى فئتين محددتين بوضوح ولم تتغيّرا منذ التسعينيات: الفئة الأولى تنتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين؛ إذ لا يوجد جهادي فرنسي واحد من الجيل الأول أو الثالث، جميعهم تقريباً كانوا يعيشون على هامش الجالية المسلمة والمغاربية قبل تطرّفهم الخاطف.
جميعهم أيضاً لم يكونوا من مرتادي الجوامع أو المشاركين في نشاطات هذه الجالية ومناسباتها. جميعهم تقريباً كانوا يشربون الكحول ويدخّنون الحشيش ويذهبون إلى الحفلات، وعدد كبير منهم ارتكب جنحاً وقضى عقوبة في السجن، ثم يقرّرون فجأة، اعتناق إسلام سلفي جهادي، في جوهره قطيعة ثورية وعودة إلى أسس ونقاء متخيّلين ورفض للثقافة الإسلامية التقليدية التي حملها معهم أهلهم إلى فرنسا.
في الغالبية العظمى من الحالات، يصطدم الابن المتطرّف حديثاً بأهله ويحاول جرّ إخوته معه. أما الفئة الثانية من الجهاديين فهي تنتمي إلى "الفرنسيين الصفوة"، وهؤلاء لا يمرّون بإسلام الجالية المسلمة التقليدي قبل اعتناق السلفية الجهادية.
اهتمام الفئتين بالإسلام يقتصر على الجهاد، هم لا يبدون اهتماماً بالنشاطات الدينية الأخرى ولا بالدراسات الدينية ولا يحاولون الاندماج في المجتمعات المحلية في سورية أو أفغانستان. الأمر الوحيد الذي يجذبهم هو نشوة قتل الآخرين وتعريض الذات للقتل.
يخلص روا إلى أننا أمام ظاهرة قطيعة جيلية وثورة جيلية تجد في السلفية الجهادية مبتغاها؛ ذلك أن الأمر الوحيد المشترك بين الفئتين المذكورتين أعلاه هو ثورتهم على ثقافة الأهل. بالنسبة له، الأمر لا يتعلق بتطرف الإسلام الفرنسي، بل بأسلمة التطرف في المجتمع الفرنسي بعد أن صارت السلفية الجهادية السلعة الأكثر رواجاً في سوق الثورة الجيلية المتطرفة.
من جهته، يعتبر بيتر هارلينغ أن الجانب الأكثر إرباكاً في هجمات باريس يكمن في كونها تنتج عن عنف حميمي موجه نحو النظير ونحو الذات. ذلك أن الأهداف المنتقاة تخرج عن المنطق الإرهابي الكلاسيكي؛ فنحن لا نجد بينها رموز دولة أو بنى تحتية استراتيجية أو مواقع سياحية.. إلخ. على العكس، الإرهابيون من أبناء الضواحي الشعبية استهدفوا أماكن استهلاك رائجة ومفرطة في عاديتها يرتادها أبناء بيئتهم وطبقتهم أكثر مما يرتادها الباريسيون.
يفسّر الكاتب ذلك بأن عملية التطرّف الخاطف لهؤلاء الشبان تقودهم إلى التمايز عما هو أليف بالنسبة إليهم، ويحيل إلى هويتهم السابقة. أما عن الهوية الجديدة القاتلة، فـ "داعش" يُقدِّم لها فضاءً ملموساً للتجسّد والترسّخ، لكنه لا يخترعها. هي قبل كل شيء انعكاس لصورة حديثة جداً عن البطولة تتشكّل في سياق غربي اجتماعي من تفشي العنصرية والبطالة وانسداد المستقبل أمام جيل شاب بكامله، مقروناً بسياق ثقافي من شَهْوَنَة للعنف (بمعنى إضفاء طابع "إيروتيكي" عليه).
ولشرح ما يقصده بشَهْوَنَة العنف، يقول هارلينغ: "تُظهر هذه البورنوغرافيا نفسها، مثلاً، في عبادة الأمن التي تتعمّق في الدائرة الثقافية والسياسية الأميركية؛ حيث يتم ربط مفاهيم العدالة والحق والدفاع والمصلحة القومية أكثر فأكثر بأجساد منفوخة العضلات وخطابات محقونة بالتسترون وأسلحة تحيل إلى التهويم وحفلات "أورجي" شهوانية من العنف يفترض بها أن تحل كل شيء، وإقحام الفحولة في السياسة الداخلية والخارجية هو مرض معد ووباء مستفحل". يوعز هارلينغ هنا بأن البعد الجنسي لعنف الإرهابيين يمكن أن يفسّر طبيعته الحميمية.