يستكمل الأوكرانيّ سيرغي لوزنيتسا (1964) عملاً متتابعًا، يُمكن وصفه بـ"مشروع سينمائي". يُنجز أفلامًا وثائقية، مُعتمدًا طريقةً، يتبلور أفقها وتقنياتها ومنهجها عامًا تلو آخر. الراهن يُتيح إنجازًا كهذا. الأرشيف، المُصوَّر فوتوغرافيًا أو بصريًا (تلفزيونيًا وسينمائيًا) منذ سنين مديدة، مُباحٌ اليوم لمهتمّين يريدون "زيارة" الماضي بلغة الحاضر وفنونه وتقنيّاته. أرشيفٌ يسهل تصويره ونسخه، وعبقرية التوليف تتولّى صُنعَ جمالٍ سينمائيّ منه. لوزنيتسا أحد هؤلاء الذين يصنعون جمالياتٍ من أشرطة مُصوّرة في أزمنة قديمة، فيُكرِّمون المونتاج، القادر على ابتكار معجزات سينمائية.
التجربة غنيّة في هذا المجال. الأعوام القليلة الفائتة تشهد تزايدًا في صناعة هذا النمط الوثائقيّ، مع أرشيفٍ مليء بآلاف ساعات التصوير، المتعلّقة بشخصياتٍ أو قضايا. بعص تلك الساعات الكثيرة معروفٌ، إذْ تبثّه محطات التلفزة، أو تُنتجه: "فورمان مقابل فورمان" للثنائي التشيكي إيلينا تْرستيكوفا وياكوب هاينا، و"دييغو مارادونا" للبريطاني آسيف كاباديا، و"فالس فالدهايم" (2018) للنمساوية روث بكرمان، و"محاكمة راتْكو مُلاديتس" (2018) للثنائي روب ميلر وهنري سينغر، و"المحاكمة" (2018) للبرازيلية ماريا راموس، و"أسطرة مايكل هاتشنس" (2018) للأسترالي ريتشارد لوانستين، وغيرها.
هذا كلّه مستلّ من أرشيفٍ قديم. كاباديا نفسه يعمل على "مشروع" كهذا قبل "دييغو مارادونا"، بدءًا من "سينّا" (2010)، عن أحد أبطال "فورمولا 1"، البرازيلي إيرتون سينّا. له أيضًا "آمِي" (2015)، عن المغنية البريطانية آمِي واينهاوس. غنى الأرشيف المُصوِّر، إنْ يكن حديثًا أو قديمًا، يُغري السينمائيّ للغوص فيه. الاختيارات صعبة، لكن وضوح الرؤية السينمائية كفيلٌ بانتقاء المطلوب لبناء سيرة بصرية للشخصية، من خلال الأرشيف. للمونتاج دور أساسيّ في هذا. روث بكرمان مثلاً مكتفية بأشرطة متداولة على شاشات التلفزة، أو مُصوّرة هنا وهناك، فتختار ما يتوافق ورغبتها في إعادة محاكمة كورت فالدهايم بتّهمة التعاون مع النازيين في الحرب العالمية الثانية. كاباديا يحصل على مئات الساعات المُصوّرة، ومعظمها محفوظ في أرشيف لاعب كرة القدم الأرجنتيني، لإعادة كتابة فصلٍ من سيرته الحياتية والمهنية، بالصُور، يتمثّل في انتسابه إلى "نادي نابولي".
اقــرأ أيضاً
هذا كلّه مستلّ من أرشيفٍ قديم. كاباديا نفسه يعمل على "مشروع" كهذا قبل "دييغو مارادونا"، بدءًا من "سينّا" (2010)، عن أحد أبطال "فورمولا 1"، البرازيلي إيرتون سينّا. له أيضًا "آمِي" (2015)، عن المغنية البريطانية آمِي واينهاوس. غنى الأرشيف المُصوِّر، إنْ يكن حديثًا أو قديمًا، يُغري السينمائيّ للغوص فيه. الاختيارات صعبة، لكن وضوح الرؤية السينمائية كفيلٌ بانتقاء المطلوب لبناء سيرة بصرية للشخصية، من خلال الأرشيف. للمونتاج دور أساسيّ في هذا. روث بكرمان مثلاً مكتفية بأشرطة متداولة على شاشات التلفزة، أو مُصوّرة هنا وهناك، فتختار ما يتوافق ورغبتها في إعادة محاكمة كورت فالدهايم بتّهمة التعاون مع النازيين في الحرب العالمية الثانية. كاباديا يحصل على مئات الساعات المُصوّرة، ومعظمها محفوظ في أرشيف لاعب كرة القدم الأرجنتيني، لإعادة كتابة فصلٍ من سيرته الحياتية والمهنية، بالصُور، يتمثّل في انتسابه إلى "نادي نابولي".
ما يفعله سيرغي لوزنيتسا منسجم والإطار السينمائي هذا. له فيه أفلامٌ عديدة، كـ"حصار (Blockada)، المُنجز عام 2006، و"الحدث (The Event)" المُنجز عام 2015. الأول يستعيد، في 52 دقيقة فقط، الحصار النازي للينينغراد في الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا بين 8 سبتمبر/أيلول 1941 و27 يناير/كانون الثاني 1944؛ والثاني يتناول، في 74 دقيقة، الانقلاب الفاشل (أغسطس/آب 1991) للقوى المتشدّدة في الحزب الشيوعي السوفييتي ضد ميخائيل غورباتشيوف، والفشل يُعجِّل سقوط الاتحاد السوفييتي.
آخر هذا النوع الوثائقي في لائحة أفلام سيرغي لوزنيتسا، منجزٌ عام 2019، بعنوان "جنازة رسمية (State Funeral)". قبله، هناك "محاكمة" (2018). الفيلمان متشابهان باتّخاذهما جوزف ستالين (1878 ـ 1953) محورًا لهما. "المحاكمة" (127 دقيقة) يستعيد محاكمة مسؤولين في الدولة والحزب الشيوعي السوفييتيين، في ثلاثينيات القرن الـ20، بتهمة التحضير لانقلاب ضده. "جنازة رسمية" (135 دقيقة) يختصّ بالأيام الأربعة التالية لرحيله، في 5 مارس/آذار. في الأول، هناك ما يشي باستخدام آلات تصوير سينمائي، مع الأدوات المطلوبة من إضاءة وتسجيل صوت. في الثاني، تتتالى الأشرطة التي تؤرشف أحوال بلدٍ وبيئات وناسٍ، في تلك الأيام التالية للوفاة. مع الأول، يغوص لوزنيتسا في التفاصيل المتنوّعة للمحاكمة، مكتفيًا بما لديه من أشرطة يُغربلها فيصنع فيلمًا وثائقيًّا من دون تعليق صوتيّ أو طباعة أسماء وتواريخ أو إضافة موسيقى تصويرية. هذا كلّه حاصلٌ في الثاني أيضًا: لا تعليق ولا طباعة ولا إضافة، فالأشرطة التي يحصل عليها تتضمّن لقطاتٍ كثيرة عن تصرّفاتٍ وانفعالاتٍ، بعضها مكبوت لكن ملامح الوجوه تُظهر شيئًا منها، وهذا ينتبه إليه لوزنيستا فيُقدّمه كما هو، لكن بتوليفٍ يُبرزه ببراعة فنية. والأشرطة تلك تُسجِّل خطابات حماسية عن قائد يبقى في وجدان الشعب، وعن إنجازاته وحضوره وأفعاله "الخيّرة"، بلغة تنضح بمزيج الشعر الثوريّ والنثر المباشر.
الملامح أساسيّة، يريد المخرج الأوكرانيّ تبيان المخبّأ فيها، فيختار الكثير منها لكشف العلاقة القائمة بين المواطنين وزعيمهم الراحل، كما بين قادة وسياسيين وضباط، ورئيس الحزب والبلد، بالإضافة إلى ضيوفٍ رسميين يأتون لوداعه قبل دفنه. لقطات عديدة تبدو كأنّها مصنوعة لإدراجها في فيلم سينمائيّ، مع أنّها طبيعية وواقعية: حركة المواطنين أثناء مرورهم أمام الجثمان المُسجّى في مقرّ حزبيّ، والعيون بنظراتها، والرأس بتحرّكه الآلي، والجسد بمشيته المبرمجة. لقطات كهذه مأخوذة أيضًا في الشوارع، أو أمام أكشاك بيع الصحف، أو في طوابير تخطو خطوات بطيئة باتّجاه المقرّ الحزبي، أو في ساحات مليئة بمواطنين يقفون للاستماع إلى تلك الخطابات.
وفرة الأشرطة تمنح سيرغي لوزنيتسا مساحة بصرية واسعة لاختيار نماذج مختلفة، تلتقي في كشفها حالة عامة في لحظة كهذه. العيون ممنوعة من البكاء، بالنسبة إلى كبار القادة، إذْ يجلس ضابط قرب زوجته، وعيونهما جامدة وهما ينظران إلى الأمام. لكن وجه الضابط مليء بانفعال ممنوع عليه التعبير عنه، فيبدو كأنّه سينفجر. نساء يبكين، ورجال يخلعون قبعاتهم بطريقة شبه عسكرية. الورود الموضوعة هنا وهناك، بألوانها الظاهرة أحيانًا، فبعض الأشرطة مُصوّر بالألوان، وبعضها الآخر بالأسود والأبيض. لكن بياض الثلج حاضرٌ، والضباب أيضًا، رغم أنّ الشمس ساطعة أحيانًا.
في "جنازة رسمية ـ المُشارك في الدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ لا كلام يعلو على كلام الخطابات المبثوثة في أمكنة مختلفة. لا شعارات مرفوعة باستثناء تلك المكتوبة باللغة الروسية، غير المترجمة في الفيلم، فالمناخ العام يوضح معانيها المناسبة لـ"جنازة رسمية" كهذه. لا إضافات البتّة، فالأهمّ كامنٌ في فنّ التلاعب السينمائيّ بالأشرطة، من خلال الاختيار والتوليف فقط. وهذا يصنع جماليات فيلمٍ، يندرج في إطار تفعيل نوع وثائقيّ سينمائيّ، يزداد الاهتمام به عامًا تلو آخر.