"جلاء الكرب عن طرابلس الغرب": الليبيون كما رآهم الحشائشي

17 يونيو 2020
(من شارع الخندق في طرابلس الغرب، 1900/ Getty)
+ الخط -

تختص زاوية "صدر قديماً"، التي أطلقها القسم الثقافي لصحيفة وموقع "العربي الجديد" في شباط/فبراير 2017، بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها.

ما الذي حدا بمُفكِّر تنويريّ إلى التوجُّه تلقاءَ الجَنوب بعد أن كان، كسائر مُثقفي "النهضة"، قد سارع الخطوَ نحو الشمال وحجَّ إلى عاصمة فرنسا لاستلهام نموذجِها؟ سؤالٌ بديهي يراود مَن يتابع المسيرة الفكرية للأديب التونسي محمد بن عثمان الحشائشي (1853 - 1912) الذي زار ليبيا سنة 1895 ليتنقَّل، طيلة عامٍ كاملٍ، بين مُدنها وبَلداتها وقُراها.

وبعدها دَوَّنَ مشاهداته في هذا البلد في نصٍّ مغايرٍ بعنوان "جَلاءَ الكَرْب عن طرابلس الغرب"، قطعَ مع جِنس الرحلة إلى أوروبا الذي دشّنَه الطهطاوي (1804 - 1872)، والذي ما لبث أن ازدهَر، أواخر القرن التاسع عشر، فرعًا مستقلًّا، أساسه الانبهار بالـمثال الغربي.

في تلك المرحلة الانتقالية، كانت الحربُ على أشدّها وراءَ الكواليس بين الاستعماريْن الفرنسي والإيطالي، اللذين تنافسا على تقاسم النفوذ في تونس وليبيا. فهل أراد الحشائشي المقارنة بين استعمار واستعمار؟ أكان يأمل أن تتفاضَل الفظائع والشرور؟ أم كان فقط يسلّي النفس عن خيباته المهنيّة بعد فشله في الظفر بمنصبٍ يليق بكفاءاته العالية؟

يمزج هذا النص، الذي طُبع بعد وفاة صاحِبِه سنة 1965، بين التأريخ والملاحظة، بين استعادة كتب الأقدمين وتدوين ما شاهده هو بذاته أثناء تِرحاله. فقد فضّل الأديب التونسي الاعتماد على كُتب التراث حتى يوثّق معلوماتِه. ولذلك امتاح من مُقدّمة ابن خلدون وتواريخ السرّاج والزركشي و"مؤنس" ابن أبي دينار. كما استفاد من كتب الرحلة السابقة كنصوص العُبيدي والتيجاني التونسي ومحمد بيرم.

بيد أنَّ أصالة هذا النص تكمن أساساً فيما دوَّنَه من ملاحظاتٍ أثناء تنقّله من شِعْب لآخَر، يُحادث الناس ويستجلي أنماط عيشهم فيقف على تنوعهم ويسجّل واقعَ البَلَد السياسي وحالة المجتمع الليبي آخرَ عهده بالحُكم العثماني وأول عهده بالاحتلال الإيطالي.

ذلك أنَّ حافز هذه الرحلة لم يكن دينيّاً: الحجُّ إلى البقاع المقدّسة، بل كان إرضاءً لرغبة دفينة في اكتشاف "الآخر"، ذاك الآخر الذي تابعه في فرنسا أثناء معرض باريس 1900، وهذا الآخر الي يقطن البوادي والصحاري ويمارس عادات قديمة، تعود إلى شعوبٍ متنوّعة الأعراق. حرَّكه شغفٌ بطبائع العمران وطرائق الناس في أنْسَنَة الطبيعة حتى ليمكنُ القول إنَّ هذه الرحلة من أولى الملاحظات الإثنوغرافية التي كُتِبت عن المجتمع الليبي الحديث، وقد أنجزها صاحبُها بحيادٍ كبير.

إذ يقدّم الكتاب وصفًا "إناسيّا" دقيقًا لسائر الجماعات التي سَكنت الأقاليم الليبية وما تضمنته من الـمعالم والآثار والسّلع والأسواق والبضائع وفيه مَعلوماتٌ دقيقة عن المبادلات التجارية بينها وبين تونس ومصر وإيطاليا وأفريقيا، وعن الإنتاج الفلاحي واليَدوي وما يجري فيه من التجارات، هذا علاوة عن تحليل الأوضاع السياسيّة وتغيّر الأسر الحاكمة وما تؤديه من الشعائر الدينية وخاصّة أيام الأعياد والمناسبات.

ومن المفارقات أنَّ "جَلاءَ الكَرْب" لم يُطبع في حياة كاتبه، بل سنة 1965. ومع ذلك، ونظرًا لما يحتويه من معلوماتٍ نفيسة، بادرت سلطات الاحتلال الفرنسي في تونس إلى ترجمته منذ 1903، ربما لغايةٍ في نفس يعقوب: استشعار أحوال الجيران تمهيدًا لاستِعمارهم. ولحسن الحظ، عاد الحشائشي إلى "رحلته" فأضاف إليها سنة 1912 فصولًا عن جهاد الليبيين ضد الاحتلال الإيطالي، كأنما ليكمل فصلًا عن إباء الليبيين ورفضهم للاستعمار، إباءٍ لصيقٍ بالشخصية البدوية العميقة لهذا الشعب، رغم قِصَر ذات اليد وقتها.

نصوصٌ ممتعةٌ هذه الفصول، على استحياءٍ تبتعد عن جنس الرحلة وأسلوبها التقليدي وتقترب من الوصف الجغرافي لتضاريس الطبيعة وتنوّع البشر. تميّزت عن ذاكرتها من أدب الرحلة بالتركيز على المشاهدات الحيّة وملاحظة المعيش اليومي للمجتمع الليبي بمختلف أعراقه وألسنته حين كانت بَلداته المنبثّة بين السواحل والصحاري، تبتعد تدريجيًّا عن السلطنة العثمانية وتأخذ في مواجهة احتلالٍ بغيضٍ. ألم ينبثق عمر المختار من سباسب ليبيا وبين خيامها؟

حمد بن عثمان الحشايشيوهكذا، يلامس منهج هذا الكتاب أسلوب التأريخ الاجتماعي الذي نَظَّر له المؤرخ فرناند برودال (1902 - 1985)، لأنّه يركّز على الوضع العمراني العام مقدّمًا أكبر عدد من التفاصيل التي استقى بعضها من كتب التراث وجلَّها من انطباعاته وأبحاثه التي أجراها في جدٍّ ومثابرة، ساعيًا ألا يغيب عنه شيءٌ من هذه الجغرافيا الممتدة.

أنجز الحشائشي أبحاثَه بموضوعية لافتة، رغم أنها لا تخلو أحيانًا من فكاهة مثل فقرات وصف "الشاهي" (الشاي الليبي) وأصناف المآكل والمشارب وذكرياتٍ شخصية طريفة. ومن ذلك أيضًا فصولٌ مخصصة للطوارق ولباسهم وعاداتهم وطبائعهم، وللطريقة السنوسية وما يُمارسُه أتباعها من طقوسٍ وشَعائر...

إنّ ما مرّت به ليبيا منذ "ثورتها" وما تعانيه اليوم من انقسامٍ وحُروب قد يجد ما يفسّره في هذا الكتاب اللافت، بما يتضمّنه من معلوماتٍ نفيسة. ولعلّ العودة إليه أن تُميط اللثام عن بعض الآليات التي تَحكم المجتمع الليبي في تعقيداته التي لم تدركها تدخّلات الغرب السافرة والمتسرّعة. لم يأخذ ساسَتُه الوقت اللازم لدراسة لاشعور قبلي جَمعيّ، أجاد الحشائشي في وصفه قبل أكثر من قرن.

المساهمون