16 نوفمبر 2024
"جريمة قتل في الكاتدرائية"
يبعثُ قتل راهبٍ في كنيسةٍ روْعا ثقيلا في النفس، فالرهبنة انقطاعٌ إلى التبتّل والتنسّك، وللكنيسة جلالُها، فيُستفظع أن تُقترف فيها جريمةٌ شنيعةٌ، تبعثُ على سويداء في الروح، كالتي فعلتها واقعة قتل الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير الأنبا مقار (مجمع دير القديس العظيم مكاريوس الكبير) في وادي النطرون في مصر. عُثر عليه غارقا في دمائِه، وقد قُتل بآلةٍ حادّة، بينما كان خارجا من قلايته (سكن الراهب) إلى أداء تسبيحته فجرا. ولاحقا، قرّر بطريرك الكرازة المرقسية، البابا تواضروس الثاني، تجريد راهبٍ من رهبنته، تمهيدا لمحاكمته في أمورٍ تتعلق بمسْلكه، من دون اشتباهٍ في ارتكابه الجريمة، على ما أوضحت البطريركية، وإنْ تحوم مقادير من الريبة به، ثم أقرّ المجمع المقدّس حزمة قراراتٍ، منها تعليق قبول الرهبان عاما، و"الاهتمام والتدقيق بحياة الراهب، والتزامه الرهباني داخل الدير، واهتمامه بأبديّته التي خرج من أجلها، ومن دون الحياد عنها"، وإيقاف "سيامة" (ترفيع) الرهبان فى الدرجات الكهنوتية (القسيسية والقمصية) ثلاث سنوات، وكذلك وقف الظهور الإعلامي للرهبان.
هل ثمّة شيءٌ دنيويٌ محض في الذي جرى، أقلّه كما ينبئ عنه ما نشر حتى تاريخه عن الجريمة، غير المسبوقة في دمويتها في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية؟ ربما. والمعلوم أن دير الأنبا مقار نفسَه يشهد، منذ سنوات، خلافاتٍ داخلية، واحتاج إلى "لمّ شملٍ" ألحّ عليه تواضروس، سيما وأنه ظلّ خارج ولاية البابوية المرقسية سنواتٍ طويلة، قبل أن يُلحقه بها البابا الراحل، شنودة الثالث، في العام 2009. ولكن تفاصيل شحيحةً تؤشّر إلى أن شحناتٍ فكريةً (وعقائدية؟!) كانت ظاهرةً في الخلافات بين أشهر رهبان هذا الدير، الأب متّى المسكين (توفي في 2006، وينتسب إلى مدرسته الأنبا الذي قتل) ورأس الكنيسة القبطية التي منعت له 48 كتابا. وليس معلوما، لا لكاتب هذه الكلمات، ولا لغير المتخصّصين بالشأن الكنسي في مصر، ما إذا كان لقصّة القتل المستجدّة، والمروّعة بداهةً، صلةٌ بالعلاقة المضطربة، إلى وقت غير بعيد، بين الكنيسة وهذا الدير. وهذا خبر محاولة راهب ثلاثيني الانتحار، أياما بعد مقتل الطبيب وعالم اللاهوت، الأنبا أبيفانيوس، يضيف إلى الحادثة لغزا آخر، سيما وأن هذا الشاب باحثٌ في الكنيسة المصرية، وأشرف على بحثه في قدّيس مشرقي الأنبا القتيل نفسه.
الغموض البادي في الواقعة، مع أرشيف تلك الخلافات، وكذا شائعة إقدام راهبٍ ما على قتل الأنبا أبيفانيوس، هذه الأمور (وغيرها) تجعل ما جرى في الدير المصري الأرثوذكسي، المحصّن، مختلفا عمّا جرى في كاتدرائية كانتربري الكاثوليكية في بريطانيا في العام 1170، لمّا اغتيل فيها الأسقُف توماس بيكيت بحراب أربعة فرسانٍ، بأمرٍ من الملك هنري الثامن. وذلك لأن الأسقف القتيل، والذي تُخبر مراجعُ مختصّةٌ أنه كان يعلم مصيره وآثر الاستشهاد، رفض أن يكون ملحقا بسلطة الملك السياسية، إيمانا منه باستقلالية السلطة الدينية التي يمثّلها، وهو الذي كان، في وقت سابق، صديقا للملك.
رحم الله الشاعر صلاح عبد الصبور، ترجم المسرحية الشعرية "جريمة قتل في الكاتدرائية" للأميركي البريطاني، ت. س. إليوت (نوبل للآداب 1948)، وصدرت بالعربية، في الكويت في 1982، فلولا مجهودُه الطيّب هذا، لما أمكن لنا، نحن القرّاء بالعربية، تذوّق هذا النص المستوحى من تلك الحادثة، والرفيع في تعبيره عن اضطرابٍ وقلقٍ كثيريْن في غضون التوتر الشعوري لدى شخصيتيه الرئيسيتين، الملك والأسقف، القاتل والقتيل، لا بشخصيْهما فقط، وإنما بتعبيرهما عن جنوح كلٍّ منهما إلى امتلاك سلطته الخاصة، ليصطدما تاليا، ثم ليندم القاتل على جريمته في الكاتدرائية.
ليس من شيءٍ في واقعة دير الأنبا مقار في وادٍ مصري مثل هذا. ليس ثمّة سياسيٌّ أراد إلحاق الدينيّ به. ولا حاجة لهذا السياسي إلى جريمةٍ مثل التي شهدتها عتبة قلاية (مسكن) الراهب المغدور، فالمؤسّسة الدينية، الكنسيّة المصرية هنا، ملتحقةٌ بالسياسيّ. ولكن، وبتحرّز كثير، قد يكون ثمّة استشهادٌ هنا، كما في واقعة الأسقف بيكيت في كاتدرائية كانتربري، من سمتٍ خاص، يعصى على الانكشاف الآن، وإنْ يبدو أنها محضُ جنايةٍ بدافع ذاتي، أقلّه حتى الآن.