"ثلاثة وجوه"... طريق وعر تعبّده الحكايات

09 ديسمبر 2018
"ثلاثة وجوه" استحضر ثلاثة نساء بأحلامهن وكوابيسهن (فيسبوك)
+ الخط -
يخطر ببالك وأنت تتابع فيلم "ثلاثة وجوه" للإيراني جعفر بناهي، إلى أي مدى يترجم المخرج التلميذ افتتانه بسينما المعلم الأكبر عباس كيارستمي؟

وأنت تتابع الفيلم في اليوم الأخير من مهرجان "أجيال" السينمائي" 3 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تفكّر بأن المعلّم والتلميذ مغرمان بترك السيارة تنهب الطريق الخارجية في إيران لتعثر على سينما، بأقل كلفة من الرقابة.

على كل حال، إذا كان الشغل السينمائي تحت الرقابة ينتج مستوى إبداعياً بهذه الشاعرية، فلا مرحَباً إلى الأبد بأي رقابة، ومرحَباً بالسينما القادمة سواء من إيران، أو من أي مكان يتقن التحليق على ارتفاع منخفض.

الطريق طويل ووعر. وعلى بناهي أن يقطعه نحو قرية بعيدة في محافظة أذربيجان الإيرانية، ومعه الممثلة الشهيرة بهناز جعفري، لفك لغز رسالة فيديو وصلت إلى موبايل المخرج، من "مرضيّة" (تؤدي دورها مرضية رضائي) الفتاة القروية الحالمة بالالتحاق بمعهد الفنون، لكنها لم تلق استجابة، فترسل الفيديو، وتحكي فيه حلمها الذي تحطّم، محمّلة المسؤولية للممثلة بهناز، إذ لم تمد لها يد المساعدة. وأخيراً في خاتمة الفيديو تشنق مرضيّة نفسها.

يمضي المخرج والممثلة باسميهما الحقيقيين، منخرطين في فيلم روائي، إلى طريق أبعد ما يكون عن العاصمة. العاصمة التي تضيء على بهناز جعفري بوصفها ممثلة ذات حظوة جماهيرية، والعاصمة ذاتها التي اتخذ فيها قرار قضائي بحجب الضوء عن جعفر بناهي، ومنعه عن العمل في السينما والسفر عشرين عاماً، لأنه ناصر "الثورة الخضراء" عام 2009.

يذهبان إلى قرية، لا يوصل إليها سوى طريق ترابي واحد يتسع فقط لسيارة. يستبد بهما القلق وشعور بهناز تحديداً بذنب كبير. يريد الاثنان التأكد، هل انتحرت الفتاة؟ هل الفيديو مفبرك؟

العقدة الدرامية ستحل في الثلث الأول من الفيلم. بعد مسير مضنٍ. سنكون أمام فتاة كاذبة، لم تنتحر، بل أرادت استدرار تعاطف النجمة الطهرانية.

ماذا تبقى لدينا إذن؟ ما الذي سيحمله فيلم بناهي بعد ذلك؟

إنها اللعبة ذاتها في فيلم "طعم الكرز" لعباس كيارستمي (السعفة الذهبية 1997). إذا كانت فتاة فيلم "ثلاثة وجوه" تفبرك انتحارها، وتفتح المجال لطريق طويل، فإن بطل فيلم كيارستمي، يريد الموت بطريقة احتفالية، ويبحث بدوره في طريق طويل عمن يكون إشبينه في مشهد الموت.

طريق واحد، لكنه يتسع لملايين الأقدام. سيارة كيارستمي تقود إلى أسئلة فلسفية حول الموت، أما بناهي فتأخذه سيارته إلى نقد سياسي واجتماعي، مع التذكير دائماً أن أفلامه الأربعة بعد 2010، (أي بعد قرار الحجر عليه وعلى كاميراته) صورت بطريقة سرية، وهرّبت إلى الخارج، ونالت نصيبها من الجوائز والشهرة.

بهناز جعفري (وسط) وإلى يسارها وزير الثقافة الفرنسية فرانسواز نيسن وإلى اليمين مرضية رضائي بمهرجان كان (Getty)

يخطر في البال أن بعض الأثر الذي يتركه فينا عمل فني، هو إحالته إلى عوالم جميلة سابقة، إنه لا يحشو ويكرر، بل يفتح الشباك.

أن يقودنا "ثلاثة وجوه" إلى "طعم الكرز"، أو أن يعيدنا فيلم "الأبدية ويوم واحد" (السعفة الذهبية 1998) لليوناني ثيودوروس أنجيلوبولوس، كيما نشاهد مرة أخرى "التوت البرّي" (1957) للسويدي إنغمار بيرغمان، فهذا لأن من جمال الفن أن نقول من جديد ما قيل منذ آلاف السنين، ولكن بهواء جديد، أو أن نضيف ضربة لون إلى وشم في ظاهر اليد، أو أن نضع رجلنا في النهر الذي لا يتكرر.

"ثلاثة وجوه" يريد قطع طريق طويلة، بعيداً ليس عن طهران وحسب، بل عن أي مدينة قد تجلب له المتاعب. هذه الطريق ليست إجبارية، لكنه اختارها تحت قرار المنع، وعليه لا بد لبناهي أن يتدبر نفسه بكاميرا واحدة، ومعدات قليلة لا تثير الشبهة، وبسيناريو ممتاز استحق عليه جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسي، مايو/ أيار الماضي.

ما يمكن تذكّره من الفيلم هو قدرة المخرج على إحضار ثلاثة أجيال نسائية، في سيناريو أدير بموهبة ودون افتعال، بمكان معزول.

جيل تمثله "شهرزاد" الممثلة النجمة قبل الثورة 1979، وانتهت في هذه القرية وحيدة منبوذة، ثم جيل الممثلة الشهيرة بهناز جعفري تحت مظلة الحكم الحالي، وأخيراً الفتاة "مرضيّة" التي تريد الالتحاق بمعهد الفنون، لكن أمامها جبلاً عالياً من التقاليد الاجتماعية وسلطة الدولة الدينية.

استطاع بناهي توجيه رسالته النقدية الحادة دون أن يطلق حكماً مباشراً ومواجهاً للسلطة والموروث الاجتماعي. لكن يكفي أنه جمع الصور القديمة والجديدة والتي ترسم احتمالاتها كوابيس أو أحلاماً في مكان قروي، وحملها على سرد فاتن. السرد هو بطل الفيلم، والممثلون وأهل القرية، يقولون بأفواههم وأجسادهم، كما لو أن معدات التصوير على بساطتها غير موجودة. إن الجميع هنا خلف كل هذه الجبال يربّون أحلامهم وأوهامهم.

مرضيّة الكاذبة هربت أساساً من أهلها، ثم فبركت عملية انتحارها. وبينما يبحث أبوها عنها في طهران، كانت تختبئ عند الممثلة المعزولة شهرزاد.

ولأن الكاميرا الإيرانية لا يسمح لها بالدخول إلى الغرف النسائية، حيث لا يعقل أن تظهر امرأة في غرفتها الخاصة وهي بالحجاب، فإن بناهي قدم مشهداً لخيالات ثلاث نساء يرقصن.

كانت الكاميرا في العتمة تلتقط من الخارج ظلال نساء خلف ستارة الشبّاك، تصعد أجسادهن للأعلى كبخور السحر: شهرزاد، وبهناز، ومرضيّة التي تحلم وتحلم.

المساهمون