تبدو الحكاية، لوهلة أولى، بسيطة: علاقة مرتبكة بين أبٍ وابنته. ويبدو مضمون الحكاية عادياً: محاولات دؤوبة للأب، بهدف استمالة ابنته إليه، أو ترميم "مشتركٍ" للعلاقة المرتبكة بينهما. وتبدو المناخات المحيطة بالحكاية ومضمونها، لوهلة أولى، متدَاوَلة ومعروفة: يوميات كلّ طرفٍ على حدة، وسلوكه المعتاد (في العمل، والبيئة الضيقة، والعلاقات القائمة بينه وبين محيطين به، هنا وهناك، إلخ...)، وأسئلته الخاصّة، المتعلّقة بأنواع العيش والتفكير، وبمقاربة حالات وأشياء وأناسٍ.
حتّى مدّة سرد الحكاية ومضمونها والمناخات المحيطة بهما تبدو، لمهتمّين سينمائيين، معقولة ومقبولة: 162 دقيقة. مُشاهدون آخرون يرون فيها طولاً يثير سأماً أو نفوراً. هذا لن يدفع مُتابع الحكاية والمستمع إلى مضمونها والمنتبه إلى مناخاتهما، وهو "مُشاهدٍ سينمائيّ غير موسميّ"، إلى الإحساس بسأمٍ أو نفور، إذْ يذهب بالفيلم ومعه إلى مطارح إنسانية عديدة، بسلاسةٍ محمّلة بغنى سينمائيّ موزّع على مفاصل الحبكة والدراما والتمثيل والمعالجة والسرد والتقاط الصُوَر السينمائية، والتوغّل، أكثر فأكثر على مدى الدقائق كلّها، في صوغ لغة سينمائية متكاملة (تصويراً ومونتاجاً وتركيباً بصرياً وتنسيقاً فنياً للمَشَاهد واللقطات والحركات وأساليب النطق، إلخ...)، تصبّ في لحظة ابتكار فيلمٍ ينطلق من حكاية بسيطة، ومضمون عاديّ لها، ومناخات متداولة ومعروفة لها ولمضمونها، ويتحوّل إلى إنجازٍ سينمائيّ بديع، وإنْ كان تعبير "بديع" أقلّ من المطلوب بكثير.
ثالث الأفلام الروائية الطويلة للألمانية مارِنْ آدي (1976) يحمل عنوان "توني إردمان". يُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ 69 (11 ـ 22 أيار/ مايو 2016) لمهرجان "كان". لا يحصل على ما يعتبره نقادٌ كثيرون "حقّاً" سينمائيّاً له: "السعفة الذهبية". يقول تعليقٌ نقديّ على النتائج النهائية للمسابقة إن المناخ الدولي العام، حالياً، يميل إلى سينما "نضالية"، تكشف مزيداً من بؤس الحياة الفردية في مجتمع رأسماليّ. يُضيف قائله: "هذا سببٌ كافٍ لمنح كِنْ لوش السعفة تلك".
الإنكليزي لوش (1936) يحصل على السعفة بفضل "أنا، دانيال بلايك"، الذي يروي تفاصيل المواجهة الحادة والصعبة، بين دانيال بلايك (59 عاماً)، النجّار الأرمل، الذي يمنعه الأطباء من العمل، والذي يعجز عن الحصول على حقّ قانوني بالعمل، رغم إصابته بمرض أو بإعاقة، وهو حق تُعلنه سلطات المملكة المتحدة "رسمياً"، في تشرين الأول/ أكتوبر 2008.
"السعفة المسروقة: توني إردمان" (عنوان الملحق الثقافي الأسبوعي ليومية "بلجيكا الحرّة"، 17 أيلول/ سبتمبر الجاري): اختصارُ واقعٍ تؤسّسه نتائج "كان"، منذ إعلانها قبل أربعة أشهر. المقارنة النقدية بين الفيلمين الألماني والإنكليزي، كأي مقارنة أخرى بين هذين الفيلمين والأعمال المشاركة في المسابقة نفسها، غير مجدية أبداً، لأن المُشاهدة غير مكتملة أولاً، ولأن المقارنة بحدّ ذاتها لن تُقدِّم نفعاً يُذكر ثانياً، ولأن الجوائز الممنوحة من المهرجانات كافة، وإنْ كان بعضها ينتمي إلى الفئة الأولى، تبقى، غالباً، حكراً على "مزاجية" أعضاء التحكيم، وهي مزاجية سينمائية وثقافية واجتماعية وفنية، ثالثاً.
أمورٌ عديدة تجعل "توني إردمان" فيلماً بديعاً وحسّاساً وواقعياً ومتماسكاً، ومتين البناء الدرامي والجمالي والفني. النص أولاً (سيناريو مارِنْ آدي نفسها)، وفيه لحظات مُضحكة لعمق كوميدي مبطّن، ينبثق من سعي الأب، وينفريد كونرادي/ توني إردمان (بيتر سيمونيشك)، إلى "فِعل المستحيل"، لاستعادة رابط حسنٍ ووديّ بينه وبين ابنته إيناس (ساندرا هولّر).
هو أستاذ ألماني، في الستينيات من عمره. هي شابّة في الثلاثينيات، تعمل مستشارة رفيعة المستوى في شركة تجارية، مقرّها الرئيسي في بوخارست. هو معتادٌ على مُزاح دائم مع الجميع، إلى درجة أنه لن يتردّد أبداً في استخدام أية وسيلة ممكنة (التنكّر مثلاً، خصوصاً بوضع أسنان اصطناعية تُبدِّل بعض ملامح الوجه)، لإثارة إعجاب أو ضحكة، أو لتأكيد حضور، أو لتخفيف بعض الضغط عمن يحيط به، أو للتسلية. هي مهمومة بعملها. منصبٌ جديد، ومسؤوليات جمّة، ووحدة قاتلة، واجتهادات دائمة لنيل إعجاب المدراء وأصحاب العمل والشركاء. وهو يريد راحةً معها، وتسامحاً.
الاختلاف بينهما جذري: في الطباع والسلوك وأنماط العيش. لكن إصراره على نيل/ استعادة حقّ أبوّة أفضل وصداقة أجمل، يجعله أكثر حضوراً في حياتها، كاشفاً لها، بطرق عديدة، عن جوانب محجوبة عنها في الحياة. جمال الفيلم كامنٌ، من بين أمور أخرى، في سلاسة السياق الدرامي، المعبّأ بحالات تُبدِّل مسارات ومصائر، وتعرّي أجساداً وأرواحاً وانفعالات، وتحرّض على مزيد من المصالحة مع الذات، أساساً.
جمال "توني إردمان" في مشاهدته. والمُشاهدة رحلة في مَناحٍ وانفعالات وذوات وأمكنة وأحلام وهواجس.