لا غرو أن يكون خوسيه أورتيغا إي غاسيت José Ortega y Gasset أحد أكثر المفكرين الإسبان تأثيراً في مجتمع القرن العشرين، وأن يكون كتابه "تمرُّد الجماهير" (1929)، واحداً من أشهر مؤلفاته. العمل الذي كُتب في فترة ما بين الحربين، ونُشر، في بادئ الأمر على شكل مقالات في صحيفة "El Sol" البارزة، يعدَّ مادةً لا بدَّ من التوقف عندها والتعمّق فيها لأي شخص يريد أن يفهم العملية الاجتماعيَّة والسياسيَّة لأوروبا في القرن العشرين، مؤسِّساً بذلك لشكلٍّ جديدٍ في طريقة الكتابة في اللغة الإسبانيّة.
من الواضح أنَّ جزءاً من الأحداث اللاحقة في التاريخ تجاوز بعض تأملاته وأفكاره، كما اعترف أورتيغا إي غاسيت نفسه في أكثر من مرة، لا سيّما عندما كتب مقدمته الشهيرة للفرنسيين، وذلك في أثناء فترة المنفى التي عاشها في هولندا، هرباً من الحرب الأهلية الإسبانية. مع ذلك، لم يستطع الزمن تجاوز نضارة تعابير هذا الفيلسوف، ولا حتى صحة العديد من إقراراته.
غير أننا إذا ما أردنا التعمُّق في كتاب "تمرُّد الجماهير"، يمكننا أن نقول إنّه كتابٌ في السياسة، وكذلك في الاجتماع وفي الفلسفة. بنى أورتيغا كتابه على أساس حدس لامع: لقد انتهت أسبقيّة النخب، والحشود الجماهيرية التي تحرّرت من خضوعها لتلك النخب، اقتحمت الحياة العامة بشكل حاسم، متسبّبةً في اضطرابٍ عميق في القيم المدنيّة والثقافيّة وفي طرق السلوك الاجتماعي.
"حشود الجماهير" هي مجموع أفراد تجرّدوا من فرديتهم وحريتهم
هكذا، في لحظة قلق متزايد على مستقبل العلاقات الدولية بعد انتصار البلاشفة في روسيا، وانتشار شعارات الفاشيّة الإيطاليّة - التي سمح أورتيغا لنفسه أن يعرّف زعيمها موسوليني بأنه نموذج "رجل الحشود الجماهيرية المبتذل" - وصعود الشيوعية، والحركات النقابية والقومية الوطنية، وتفشّي بوادر ثقافة شعبويّة مستهلكة، يأتي حدس أورتيغا ليؤسِّس واحدة من السمات الرئيسية للحياة الحديثة التي نعرفها اليوم.
يتوقف أورتيغا مطولاً عند مفهوم ظاهرة "الحشود الجماهيرية"، منتقداً هذه الظاهرة بناءً على فكرة الدفاع عن الفرد، الذي تتعرض سيادته للتهديد – بل في حقيقة الأمر دُمّرت - بفعل ظهور الحشود الجماهيرية المفاجئ والعنيف، والذي لا يمكن ضبطها، في الحياة المعاصرة. ضمن هذا السياق، لا يتطابق مفهوم "الحشود الجماهيرية"، بالنسبة لأستاذ الماورائيات، مع مفهوم جماهير "الطبقات الاجتماعية"، كما أنه يتعارض مع التعريف الذي وضعته الشيوعية.
"الحشود الجماهيرية"، التي يشير إليها أورتيغا إي غاسيت، هي تلك التي تضم الرجال والنساء من مختلف الطبقات الاجتماعية، مساويّاً أفرادها في كائن جماعي يندمجون فيه، متنازلين بذلك عن فرديتهم السيادية مقابل سيادة جماعية يصيرون فيها مجرّد "جزء من القبيلة". "حشود الجماهير" في الكتاب، إذاً، هي مجموعة الأفراد الذين تجرّدوا من فرديتهم ومن كونهم أحراراً ومفكرين، ليذوبوا في "جماعة" تفكُّر وتتصرف نيابةً عنهم.
لا يتردد أورتيغا في وضع أمثلة على هذه الحشود التي ترافق موسيليني، هتلر أو ستالين. غير أنَّ فيلسوفنا لا يدرج ظاهرة التكتل الجماهيري ضمن الحشود المواكبة للقادة العسكريين والجنرالات في الأنظمة الشمولية فحسب، بل يرى أن هذه الظاهرة هي واقع جديد في الديمقراطيات أيضاً، حيث يميل الفرد فيها إلى الانصهار في جماعات متجانسة تلعب اليوم دور القيادة في الحياة العامة، وهذه، برأيه، ظاهرة تعيد إلى البدائية وإلى أشكال وصيغ بربرية مقنّعة تلبس رداء الحداثة.
ضمن هذا السياق، وببصيرة نافذة، لا يتردد أورتيغا في تأكيد حقيقة أن انفجار الحشود الجماهيرية العنيف في الحياة السياسية والاجتماعية ستكون له عواقب جمّة على الناحية الثقافية من حيث الابتذال والسوقيّة، أي استبدال المنتج الفني الحقيقي بمحاكاة كاريكاتورية أو نسخة ميكانيكية نمطية أو معمعة من الحماقات والسخافات والذوق الرديء. لقد كان أورتيغا نخبويّاً في ما يتعلق بالثقافة، لكن هذه النخبويّة لم تكن على خلاف مع معتقداته الديمقراطية، لأنها كانت تتعلق بإنشاء منتجات ثقافية ووضعها في قائمة من القيم والمتطلبات المتعلقة بنشر واستهلاك المنتجات الثقافية؛ لقد كان موقفه، بهذا الصدد، عالمياً وديمقراطياً: يجب أن تكون الثقافة متاحة للجميع. ببساطة، فهم أورتيغا أنَّ الأنماط الجماليّة والفكرية للحياة الثقافيّة يجب أن يحدّدها الفنانون والمفكرون العظماء، أولئك الذين جدّدوا التقاليد وأسَّسوا نماذج وأشكالاً جديدة، وافتتحوا طرائق جديدة لفهم الحياة وتمثيلها الفني. بخلاف ذلك، سيسود الذوق العام وسيكون "نموذج رجل الجماعة المبتذل" من سيحدّد المراجع والمعايير الجمالية والفكريّة للمجتمع بأسره، وبالتالي ستكون النتيجة إفقاراً موحشاً للحياة الثقافية وخنقاً للإبداع. وهنا لا بدّ من توضيح أن النخبويّة الثقافية التي ينتمي إليها أورتيغا ويحكي بها لا تنفصل عضويّاً عن كوزموبوليتانية ثقافية لا مكان للحدود المحلية والوطنية فيها. إنّها نخبوية ثقافيّة عالمية، ومن هنا فإنَّ تفكيره كان دائماً ضد النزعات الوطنية.
ليذوبوا في "جماعة" تفكُّر وتتصرف نيابةً عنهم
اليوم، وبعد سنوات عديدة، حقيقةً، يُدهش القارى في أثناء القراءة من الشعور الأوروبي الحيوي الذي يقحمه أورتيغا في كل جملة تتناول أوروبا. "لقد حان الوقت بالنسبة للأوروبيين لأن يعوا أن أوروبا يمكن أن تكون فكرة وطن واحد". يؤكد أورتيغا. وفعلاً الكتاب، في جوهره، هو دفاع مبكر ومثير للدهشة عن أوروبا موحدة تدافع عن تقاليدها وثقافتها في مجتمع واحد. فقط في هذا الاتحاد، يرى أورتيغا إمكانية الخلاص لأوروبا، التي فقدت الهيمنة التاريخية التي كانت تتمتع بها في الماضي، والتي تراجعت بسبب روسيا والولايات المتحدة العازمتين على تولي دفة القيادة. هذا الاقتراح الجريء الذي قدّمه أورتيغا لصالح الاتحاد الأوروبي، والذي تبلور بعد نصف قرن وأصبح حقيقةً، دليل واضح على بصيرة أورتيغا التي تفاخَر بها في أكثر من موقف.
لا يزال كتاب "تمرُّد الجماهير" كتاباً حاضراً لحداثته وجرأته، ناهيك عن نثره الرائع، حيث استطاع أورتيغا ببراعة المزج بين السخرية، الدعابة والفكاهة. أقل ما يمكن القول عن هذا الكتاب، بأفكاره وأطروحاته، إنَّ مؤلفه أظهر فيه استقلالية روحيّة كبيرة وقناعات راسخة قادرة على مقاومة الضغوط الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في عصره.
* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا