01 نوفمبر 2024
"تمرد" القواعد الحزبية في الانتخابات التمهيدية الرئاسية الأميركية
مع انتهاء أول جولتين من الانتخابات التمهيدية الحزبية للانتخابات الرئاسية الأميركية، في كل من ولايتي أيوا ونيوهامشر، يبدو واضحاً أن ثمة بروزاً لافتاً، لم يكن متصوراً قبل أشهر قليلة، لمرشحي "التمرد" داخل الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، على حساب مرشحي "المؤسسة الحزبية". المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، سيدة أميركا الأولى سابقاً، وعضو مجلس الشيوخ دورتين عن ولاية نيويورك، ووزيرة الخارجية السابقة، والتي كان يُنظر إليها، إلى أشهر قليلة فاتت، على أنها "المرشح الحتمي" عن الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة، وهو الأمر الذي دفع، إلى حد كبير، نائب الرئيس الحالي، جو بايدن، إلى عدم الترشح قبالتها، بالكاد فازت، ببضع أعشار مئوية، في انتخابات أيوا التمهيدية على مرشح عجوز، هو عضو مجلس الشيوخ، بيرني ساندرز، يعلن صراحةً أنه "ديمقراطي اشتراكي"، في حين خسرت أمامه بطريقة مهينة في انتخابات نيوهامشر بفارق 22 نقطة.
وعلى الصعيد الجمهوري، تلقى حاكم ولاية فلوريدا السابق، وابن الرئيس الأسبق، جورج إتش. بوش، وشقيق الرئيس السابق، جورج دبليو. بوش، والذي كان ينظر له منذ عام تقريباً على أنه "المرشح المفترض" عن الحزب الجمهوري، هزيمة مذلة في انتخابات أيوا، أمام مرشح متطرف، هو عضو مجلس الشيوخ، تيد كروز، وحل رابعاً في انتخابات نيوهامشر التي فاز فيها "شعبوي"، هو دونالد ترامب، على الرغم من أن أباه وشقيقه ربحا، من قبل، الولاية في الانتخابات التمهيدية.
تحاول السطور التالية تقديم شرحٍ موجز عن أسباب (وخلفيات) هذه المفاجآت في المنافسات الحزبية على الانتخابات الرئاسية لأقوى دولة على وجه البسيطة، وأكثرها نفوذاً وتأثيراً في العالم، واحتمالات أن تؤول رئاستها إلى من يباهي بـ"اشتراكيته" في بلدٍ تسود فيه الرأسمالية "الجشعة". ونتحدّث هنا عن ساندرز، أو إلى "شعبوي" أرعن وسطحي، مثل ترامب، أو متطرف مبغوض حتى من أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ، مثل كروز. لا شك أن ثمة دوافع وخلفيات لـ"تمرد" القواعد الحزبية على قيادتي الحزبين.
ديمقراطياً، حملت الأشهر الماضية فضائح سياسة كثيرة لكلينتون، حيث بدأت حملتها تشهد حالة من التراجع أمام حملة ساندرز بشكلٍ يذكّر بما وقع مع حملتها الرئاسية، قبل سبع سنوات أمام الرئيس باراك أوباما. يمكن إرجاع أهم الأسباب في التراجع الحاد لحملة كلينتون، ديمقراطياً، إلى الأسباب التالية:
ضعف صدقيتها
تفيد استطلاعات الرأي بأن كلينتون تواجه مشكلة حقيقية لناحية الصدقية والثقة بين الأميركيين.
فحسب استطلاع للرأي، أجري أواخر العام الماضي، فإن 61% من الأميركيين لا يثقون بها. لا شك أن تداعيات الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي عام 2012، وكيفية تعامل كلينتون معه، عندما كانت وزيرةً للخارجية، وما تبعه من اتهاماتٍ لها بمحاولة حجب حقائقه عن الكونغرس، واكتشاف أنها كانت تستخدم إيميلاً خاصا على خادم خاص، أمور ساهمت بشكل كبير في تردّي تلك المصداقية. ويجد ديمقراطيون كثيرون صعوبة في تصديق ما تعلنه كلينتون من مواقف ليبرالية وتقدمية اليوم، ذلك أن مواقفها التي عرفت بها عقوداً، منذ كانت سيدة أولى منذ مطلع التسعينيات، مروراً بانتخابها عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية نيويورك، ما بين أعوام (2001-2009)، ثم وزيرة للخارجية أعوام (2009-2013)، تناقض تلك المزاعم. وعلى العكس من ذلك، فإن ساندرز معروف بمواقفه التي توصف بالتقدمية والليبرالية، منذ عقود طويلة، منذ انتخابه في مجلس النواب الأميركي عام 1991، ثم مجلس الشيوخ عام 2007. وستلقي النقاط التالية مزيدا من الضوء على مشكلة الانطباع الذي تواجهه كلينتون في هذا السياق.
افتقادها القدرة على إثارة الحماس والإثارة
المشكلة الأخرى التي تعاني منها كلينتون أنها تبدو غير قادرة أبداً على إيجاد نوع من الإثارة والحماسة داخل قواعد الحزب الديمقراطي، على عكس ساندرز. وهذا بالضبط ما واجهته كلينتون عام 2008 أمام أوباما. فأغلب القواعد الشابة للديمقراطيين ينظرون لكلينتون، كما أشرنا في النقطة السابقة، على أنها غير صادقة فيما تدّعيه من مواقف ليبرالية وتقدمية، على عكس سجلها السياسي تاريخياً، مثل تأييدها الحرب على العراق. ولذلك، فإنهم لا يتفاعلون كثيراً مع حملتها الانتخابية.
الشكوك حول مزاعمها في "الليبرالية" و"التقدمية"
هنا تكمن ورطة كلينتون الحقيقية، فتاريخ كلينتون السياسي، وسجل تصويتها عضواً في مجلس الشيوخ، أو سياساتها وزيرة خارجية، لا توحي أبداً أنها "ليبرالية" أو "تقدمية"، بل الواضح أنها بدأت تعدل في لهجة خطابها ومواقفها جرّاء التحديات التي فرضها تصاعد شعبية حملة ساندرز ديمقراطياً. فالمعضلات الأخلاقية التي تواجهها أميركا اليوم كثيرة، منها تصاعد التمييز العنصري، والتوزيع غير العادل للثروة، وجشع مؤسسات المال في وول ستريت، والحروب الأميركية اللامتناهية. وفي كل هذه القضايا، يتقدم ساندزر على كلينتون، وهو أكثر مبدئية فيها. فساندرز مثلا عارض قرار إدارة بوش الابن غزو العراق عام 2003، عندما كانت تلك المعارضة غير شعبية، في حين أن كلينتون أيدت ذلك حينها. وعلى الرغم من إقرار كلينتون بأن تصويتها ذاك كان خاطئاً، غير أن ذلك لم يفدها كثيرا.
ويرى كثيرون من أبناء القاعدة الانتخابية الديمقراطية أن هيلاري صقورية في مقاربتها السياسة
الخارجية، فهي وزيرة للخارجية أيدت تدخلاً أميركياً محدوداً في الصراعين السوري والليبي، ألخ. ولذلك، ثمة من يتهمها بأنها أقرب إلى الجمهوريين في السياسة الخارجية. وتحاول كلينتون أن تتغلب على هذه المعضلة بالتلميح إلى أن "حمائمية" ساندرز في السياسة الخارجية ستكون عبئاً على الحزب الديمقراطي في الانتخابات العامة، لكن هذه التلميحات لم تؤت أكلها بعد.
أما على صعيد معضلة العنصرية في أميركا، فيرى كثيرون في الحزب الديمقراطي أنها غير صادقة كثيراً في معارضتها لها. مثلا، في أثناء منافستها باراك أوباما في انتخابات عام 2008، تورطت حملة كلينتون، غير مرة، في اللعب، ضمنياً، على وتر العنصرية لكون أوباما أسود، ولمّحت إلى أنه مسلم.
مشكلة حقيقية أخرى تواجهها كلينتون مع القاعدة الديمقراطية، تتمثل في علاقاتها الوطيدة مع المؤسسات المالية في "وول ستريت" وأذرعها الضاغطة، الأمر الذي لا يكف ساندرز عن التذكير به. وعندما سألت عن تلقيها مئات آلاف الدولارات من شركات أميركية كبرى مقابل كلمات ألقتها، لم تستطع أن تجيب بأكثر من القول: "لا أعرف. هذا ما يدفعونه!".
مشكلة مع القاعدة الديمقراطية الشابة
أضعفَ ما سبق كلينتون بين القاعدة الانتخابية الشابة في الحزب الديمقراطي، وهي قاعدة أكثر ليبرالية، وأكثر تبنياً لقيم "تقدمية"، أو ما يصفه ساندرز وَهُمْ بـ"الثورة". ومع ذلك، لا زالت كلينتون غير قادرة، كابنة للمؤسسة الحاكمة التقليدية في الحزب، على أن تتبنى هذا الفهم، فعندما سألت عن المشكلة التي تراها في مفهوم "الثورة"، كان جوابها أنها تترك هذا الأمر لساندرز ليشرحه. ومع محاولة كلينتون التقرب من تلك القاعدة الشابة في الحزب، مثل مدحها التزام جيلهم بمناهضة التمييز العنصري، والتمييز على أساس الجنس، أو ضد المثليين، وغياب العدالة الاقتصادية، وقلقهم من التغيرات المناخية، وتأكيدها أن الأسلوب الأنجع لتحقيق مطالبهم يكون بتغيير السياسات، غير أن الواقع يقول إنها لا زالت لم تحقق نجاحا يذكر في هذا السياق.
ما سبق لا يعني أن كلينتون فقدت فرصها للظفر بترشيح الحزب الديمقراطي لها، بل على العكس، هي لا زالت المرشح الأرجح له، خصوصاً مع توجه الانتخابات التمهيدية، الشهر الجاري، غرباً إلى نيفادا التي فيها نسبة كبيرة من اللاتينيين، وجنوباً، إلى ولاية ساوث كارولينا التي فيها نسبة كبيرة من السود. وكلتا الأقليتين المذكورتين يدعمان كلينتون إلى الآن. لكن ذلك لا يمنع بروز مفاجآت غير سارة لحملة كلينتون، خصوصا مع جهود ساندرز الكبيرة للتواصل مع الأقليات، وتحويل حملته إلى حملةٍ وطنية، وأن لا تكون مقتصرة على التقدم الكبير الذي أحرزه في نيوهامشر.
جمهورياً، يعاني المرشحون المحسوبون على "المؤسسة التقليدية" من حالة "التمرد" التي تشهدها صفوف الحزب الجمهوري، منذ عام 2009، رداً على انتخاب أوباما وسياساته الاقتصادية وتوجهاته نحو قضايا الهجرة والضرائب والرعاية الصحية والمديونية، فضلا عن سياسته الخارجية، إلخ. وقد تمثلت حركة التمرد تلك في تشكل "حركة الشاي" حينها، والتي استطاعت أن توصل عدداً معتبراً من مرشحيها في الحزب الجمهوري، على حساب مرشحي "المؤسسة"، إلى الكونغرس في انتخابات عامي 2010 و2014. ويمكن القول إن مرد حالة التمرد التي يشهدها الحزب الجمهوري الغضب الشديد لدى القاعدة الأكثر محافظة ويمينية في الحزب الجمهوري، وهم كبار السن من الذكور البيض، في الأغلب، ليس فقط على سياسات إدارة أوباما، بل وكذلك على ما يرونه من ضعف حزبهم في التصدي لتلك السياسات، أو حتى مشاركته للديمقراطيين، أحياناً، فيها، وذلك كما في إقرار الموازنات العامة. وقد أدت حالة التمرد تلك إلى أن يتخلى، رئيس مجلس النواب السابق، الجمهوري، جون بينر، أواخر العام الماضي، عن منصبه، ويستقيل من الكونغرس، بعد عجزه عن ضبط تمرد أعضاء "حركة الشاي" بين نواب حزبه.
في هذه الأجواء، جاء صعود ترامب المتقمص الخطاب اليميني على حساب شخصياتٍ، كجيب
بوش الذي يفتقد القدرة، كما كلينتون، على إثارة حماسة القاعدة الانتخابية اليمينية للحزب. وعلى الرغم من أن أحدا لم يأخذ حملة ترامب على محمل الجد في البداية، غير أن الواقع يكذب ذلك إلى الآن. وحتى عندما بدأ الجميع يأخذه على محمل الجد، فإن غالب المحللين والمراقبين توقعوا أن ظاهرته ستكون مثل بالون الهواء الذي لن يلبث طويلاً حتى يتبدد هواؤه، لكن ذلك لم يحدث إلى الآن، وذلك على الرغم من مواقف جدلية عديدة اتخذها ترامب. وتصارع المؤسسة التقليدية، اليوم، في محاولة لإيجاد مرشح محسوب عليها، عله يستطيع أن يوحد الحزب خلفه، غير أنها لم تفلح بعد في ذلك.
بمعنى آخر، فإنه إلى الآن، لا يوجد مرشح واضح قوي لـ"مؤسسة" الحزب الجمهوري تتوحد وراءه. وهنا، تكمن معضلة الحزب الأساسية، فالحماسة في صفوفه للانتخابات تبدو أكبر من الحماسة داخل صفوف الحزب الديمقراطي، وهذا واضح في أعداد المشاركين من الحزبين في الانتخابات التمهيدية التي جرت إلى الآن في أيوا ونيوهامشر، غير أنه لا زال غير قادر على البناء عليها.
تتمثل معضلة الديمقراطيين والجمهوريين الأبرز في أن كليهما لا يمكن لهما أن يربحا الانتخابات الرئاسية من دون دعم المستقلين، وهناك تخوفات من أن المستقلين لن يصوتوا لترامب وكروز المتطرفيْن، على الصعيد الجمهوري، ولا لساندرز "الاشتراكي" على الصعيد الديمقراطي، وهذا ما دفع عمدة نيويورك السابق، البليونير، مايكل بلومبيرغ، إلى الإعلان أنه يفكر بالترشح مستقلاً. بمعنى آخر، ما زالت أميركا تموج بتحولات جذرية، لمَّا تستقر بعد منذ نجاح أوباما للرئاسة أواخر عام 2008، ليكون أول رئيس أسود من أصول مسلمة، في بلد مارس العبودية بحق السود قرابة قرنين ونصف قرن من الزمان، وهم لا زالوا يعانون من التمييز العنصري والتهميش إلى اليوم، دع عنك تلك الحملة المسمومة على الإسلام والمسلمين منذ هجمات "11 سبتمبر" 2001. فهل تكمل أميركا مسار تحولاتها الجذرية، أم تنجح مؤسستا الحزبين التقليديتين في السيطرة مجدداً على زمام الأمور؟ هذا ما لا يستطيع أن يجيب عليه أحد اليوم بثقة واطمئنان.
وعلى الصعيد الجمهوري، تلقى حاكم ولاية فلوريدا السابق، وابن الرئيس الأسبق، جورج إتش. بوش، وشقيق الرئيس السابق، جورج دبليو. بوش، والذي كان ينظر له منذ عام تقريباً على أنه "المرشح المفترض" عن الحزب الجمهوري، هزيمة مذلة في انتخابات أيوا، أمام مرشح متطرف، هو عضو مجلس الشيوخ، تيد كروز، وحل رابعاً في انتخابات نيوهامشر التي فاز فيها "شعبوي"، هو دونالد ترامب، على الرغم من أن أباه وشقيقه ربحا، من قبل، الولاية في الانتخابات التمهيدية.
تحاول السطور التالية تقديم شرحٍ موجز عن أسباب (وخلفيات) هذه المفاجآت في المنافسات الحزبية على الانتخابات الرئاسية لأقوى دولة على وجه البسيطة، وأكثرها نفوذاً وتأثيراً في العالم، واحتمالات أن تؤول رئاستها إلى من يباهي بـ"اشتراكيته" في بلدٍ تسود فيه الرأسمالية "الجشعة". ونتحدّث هنا عن ساندرز، أو إلى "شعبوي" أرعن وسطحي، مثل ترامب، أو متطرف مبغوض حتى من أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ، مثل كروز. لا شك أن ثمة دوافع وخلفيات لـ"تمرد" القواعد الحزبية على قيادتي الحزبين.
ديمقراطياً، حملت الأشهر الماضية فضائح سياسة كثيرة لكلينتون، حيث بدأت حملتها تشهد حالة من التراجع أمام حملة ساندرز بشكلٍ يذكّر بما وقع مع حملتها الرئاسية، قبل سبع سنوات أمام الرئيس باراك أوباما. يمكن إرجاع أهم الأسباب في التراجع الحاد لحملة كلينتون، ديمقراطياً، إلى الأسباب التالية:
ضعف صدقيتها
تفيد استطلاعات الرأي بأن كلينتون تواجه مشكلة حقيقية لناحية الصدقية والثقة بين الأميركيين.
افتقادها القدرة على إثارة الحماس والإثارة
المشكلة الأخرى التي تعاني منها كلينتون أنها تبدو غير قادرة أبداً على إيجاد نوع من الإثارة والحماسة داخل قواعد الحزب الديمقراطي، على عكس ساندرز. وهذا بالضبط ما واجهته كلينتون عام 2008 أمام أوباما. فأغلب القواعد الشابة للديمقراطيين ينظرون لكلينتون، كما أشرنا في النقطة السابقة، على أنها غير صادقة فيما تدّعيه من مواقف ليبرالية وتقدمية، على عكس سجلها السياسي تاريخياً، مثل تأييدها الحرب على العراق. ولذلك، فإنهم لا يتفاعلون كثيراً مع حملتها الانتخابية.
الشكوك حول مزاعمها في "الليبرالية" و"التقدمية"
هنا تكمن ورطة كلينتون الحقيقية، فتاريخ كلينتون السياسي، وسجل تصويتها عضواً في مجلس الشيوخ، أو سياساتها وزيرة خارجية، لا توحي أبداً أنها "ليبرالية" أو "تقدمية"، بل الواضح أنها بدأت تعدل في لهجة خطابها ومواقفها جرّاء التحديات التي فرضها تصاعد شعبية حملة ساندرز ديمقراطياً. فالمعضلات الأخلاقية التي تواجهها أميركا اليوم كثيرة، منها تصاعد التمييز العنصري، والتوزيع غير العادل للثروة، وجشع مؤسسات المال في وول ستريت، والحروب الأميركية اللامتناهية. وفي كل هذه القضايا، يتقدم ساندزر على كلينتون، وهو أكثر مبدئية فيها. فساندرز مثلا عارض قرار إدارة بوش الابن غزو العراق عام 2003، عندما كانت تلك المعارضة غير شعبية، في حين أن كلينتون أيدت ذلك حينها. وعلى الرغم من إقرار كلينتون بأن تصويتها ذاك كان خاطئاً، غير أن ذلك لم يفدها كثيرا.
ويرى كثيرون من أبناء القاعدة الانتخابية الديمقراطية أن هيلاري صقورية في مقاربتها السياسة
أما على صعيد معضلة العنصرية في أميركا، فيرى كثيرون في الحزب الديمقراطي أنها غير صادقة كثيراً في معارضتها لها. مثلا، في أثناء منافستها باراك أوباما في انتخابات عام 2008، تورطت حملة كلينتون، غير مرة، في اللعب، ضمنياً، على وتر العنصرية لكون أوباما أسود، ولمّحت إلى أنه مسلم.
مشكلة حقيقية أخرى تواجهها كلينتون مع القاعدة الديمقراطية، تتمثل في علاقاتها الوطيدة مع المؤسسات المالية في "وول ستريت" وأذرعها الضاغطة، الأمر الذي لا يكف ساندرز عن التذكير به. وعندما سألت عن تلقيها مئات آلاف الدولارات من شركات أميركية كبرى مقابل كلمات ألقتها، لم تستطع أن تجيب بأكثر من القول: "لا أعرف. هذا ما يدفعونه!".
مشكلة مع القاعدة الديمقراطية الشابة
أضعفَ ما سبق كلينتون بين القاعدة الانتخابية الشابة في الحزب الديمقراطي، وهي قاعدة أكثر ليبرالية، وأكثر تبنياً لقيم "تقدمية"، أو ما يصفه ساندرز وَهُمْ بـ"الثورة". ومع ذلك، لا زالت كلينتون غير قادرة، كابنة للمؤسسة الحاكمة التقليدية في الحزب، على أن تتبنى هذا الفهم، فعندما سألت عن المشكلة التي تراها في مفهوم "الثورة"، كان جوابها أنها تترك هذا الأمر لساندرز ليشرحه. ومع محاولة كلينتون التقرب من تلك القاعدة الشابة في الحزب، مثل مدحها التزام جيلهم بمناهضة التمييز العنصري، والتمييز على أساس الجنس، أو ضد المثليين، وغياب العدالة الاقتصادية، وقلقهم من التغيرات المناخية، وتأكيدها أن الأسلوب الأنجع لتحقيق مطالبهم يكون بتغيير السياسات، غير أن الواقع يقول إنها لا زالت لم تحقق نجاحا يذكر في هذا السياق.
ما سبق لا يعني أن كلينتون فقدت فرصها للظفر بترشيح الحزب الديمقراطي لها، بل على العكس، هي لا زالت المرشح الأرجح له، خصوصاً مع توجه الانتخابات التمهيدية، الشهر الجاري، غرباً إلى نيفادا التي فيها نسبة كبيرة من اللاتينيين، وجنوباً، إلى ولاية ساوث كارولينا التي فيها نسبة كبيرة من السود. وكلتا الأقليتين المذكورتين يدعمان كلينتون إلى الآن. لكن ذلك لا يمنع بروز مفاجآت غير سارة لحملة كلينتون، خصوصا مع جهود ساندرز الكبيرة للتواصل مع الأقليات، وتحويل حملته إلى حملةٍ وطنية، وأن لا تكون مقتصرة على التقدم الكبير الذي أحرزه في نيوهامشر.
جمهورياً، يعاني المرشحون المحسوبون على "المؤسسة التقليدية" من حالة "التمرد" التي تشهدها صفوف الحزب الجمهوري، منذ عام 2009، رداً على انتخاب أوباما وسياساته الاقتصادية وتوجهاته نحو قضايا الهجرة والضرائب والرعاية الصحية والمديونية، فضلا عن سياسته الخارجية، إلخ. وقد تمثلت حركة التمرد تلك في تشكل "حركة الشاي" حينها، والتي استطاعت أن توصل عدداً معتبراً من مرشحيها في الحزب الجمهوري، على حساب مرشحي "المؤسسة"، إلى الكونغرس في انتخابات عامي 2010 و2014. ويمكن القول إن مرد حالة التمرد التي يشهدها الحزب الجمهوري الغضب الشديد لدى القاعدة الأكثر محافظة ويمينية في الحزب الجمهوري، وهم كبار السن من الذكور البيض، في الأغلب، ليس فقط على سياسات إدارة أوباما، بل وكذلك على ما يرونه من ضعف حزبهم في التصدي لتلك السياسات، أو حتى مشاركته للديمقراطيين، أحياناً، فيها، وذلك كما في إقرار الموازنات العامة. وقد أدت حالة التمرد تلك إلى أن يتخلى، رئيس مجلس النواب السابق، الجمهوري، جون بينر، أواخر العام الماضي، عن منصبه، ويستقيل من الكونغرس، بعد عجزه عن ضبط تمرد أعضاء "حركة الشاي" بين نواب حزبه.
في هذه الأجواء، جاء صعود ترامب المتقمص الخطاب اليميني على حساب شخصياتٍ، كجيب
بمعنى آخر، فإنه إلى الآن، لا يوجد مرشح واضح قوي لـ"مؤسسة" الحزب الجمهوري تتوحد وراءه. وهنا، تكمن معضلة الحزب الأساسية، فالحماسة في صفوفه للانتخابات تبدو أكبر من الحماسة داخل صفوف الحزب الديمقراطي، وهذا واضح في أعداد المشاركين من الحزبين في الانتخابات التمهيدية التي جرت إلى الآن في أيوا ونيوهامشر، غير أنه لا زال غير قادر على البناء عليها.
تتمثل معضلة الديمقراطيين والجمهوريين الأبرز في أن كليهما لا يمكن لهما أن يربحا الانتخابات الرئاسية من دون دعم المستقلين، وهناك تخوفات من أن المستقلين لن يصوتوا لترامب وكروز المتطرفيْن، على الصعيد الجمهوري، ولا لساندرز "الاشتراكي" على الصعيد الديمقراطي، وهذا ما دفع عمدة نيويورك السابق، البليونير، مايكل بلومبيرغ، إلى الإعلان أنه يفكر بالترشح مستقلاً. بمعنى آخر، ما زالت أميركا تموج بتحولات جذرية، لمَّا تستقر بعد منذ نجاح أوباما للرئاسة أواخر عام 2008، ليكون أول رئيس أسود من أصول مسلمة، في بلد مارس العبودية بحق السود قرابة قرنين ونصف قرن من الزمان، وهم لا زالوا يعانون من التمييز العنصري والتهميش إلى اليوم، دع عنك تلك الحملة المسمومة على الإسلام والمسلمين منذ هجمات "11 سبتمبر" 2001. فهل تكمل أميركا مسار تحولاتها الجذرية، أم تنجح مؤسستا الحزبين التقليديتين في السيطرة مجدداً على زمام الأمور؟ هذا ما لا يستطيع أن يجيب عليه أحد اليوم بثقة واطمئنان.