تروي مصادر إدارية في لبنان أنّ فريقاً من الموظفين العامين زار في وفد كبير أحد المسؤولين الأساسيين للمطالبة بتصحيح أجورهم المتدنية ورفع رواتبهم. لكنّ المسؤول سرعان ما رفض طلبهم من قناة الرشوة وسألهم: "أليس لديكم مصدر آخر للدخل سوى الراتب!؟". على هذا الأساس تقول المصادر إنّ السلطات هي التي تشرّع الرشوة في لبنان، فكيف لا تكون هي الأساس وما دونها شواذ؟
بدورها، ذهبت وزارة العمل اللبنانية أبعد من ذلك. ففي أواخر يوليو/ تموز الماضي صدر قرار عنها قرأ فيه الجميع تشريع الرشوة داخل دوائرها. فقد حدد القرار إنشاء "صندوق خاص لموظفي الوزارة يُموَّل من مساهمات اختيارية للمواطنين الذين يريدون إنجاز معاملاتهم بأقصى سرعة من دون انتظار المهل المتبعة لسير المعاملات الإدارية".
ذلك القرار سلط الضوء أكثر على الممارسات الشائعة في الدوائر والمؤسسات اللبنانية التي لا تيسَّر أمور المواطنين فيها إلاّ بطرق تقليدية تعتبر الرشوة بتسمياتها المختلفة جزءاً لا يتجزأ من العملية البيروقراطية. ومع ذلك، فالأمر لا يقتصر على القطاع العام، مع كلّ ما يشوب أيّ خدمة في لبنان من محاباة وواسطة وتوصية.. وببساطة رشوة.
على هذا الأساس تبحث "العربي الجديد" في واقع الرشوة في لبنان مع تعمّد إغفال أسماء الشهود والدوائر والأجهزة. وهو إغفال لا يغير في ذلك الواقع شيئاً. فالتقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية بحسب ما تؤكده لـ"العربي الجديد" المديرة الرئيسية لفرع المنظمة في لبنان نادين مرعي يشير إلى أنّ ترتيب لبنان في الشفافية هو 136 من أصل 175 دولة، بدرجة 27 من 100.
يقول خبير قضائي لـ"العربي الجديد" إنّ الرشوة بدأت منذ تأسيس لبنان الحديث على يد الانتداب الفرنسي الذي لم يمنح موظفي القطاع العام سوى رواتب بسيطة جداً على أن يجنوا "فنجان قهوتهم" وهي تسمية الرشوة الفرنسية الشائعة في ذلك الزمن، من جيوب المواطنين.
بدوره، يروي أحد الشهود قصته مع جهاز عام مكلف بالملفات الاقتصادية. الشاهد يستورد من تايلاند والصين أقراص مدمجة (دي في دي)، خاصة بأحدث أفلام هوليوود وببرامج الكومبيوتر والألعاب الإلكترونية. وبينما يتجاوز سعر القرص المدمج الواحد الأصلي الذي يحتوي على فيلم، على سبيل المثال، 20 دولاراً أميركياً، يبيع الشاهد قرصه المستورد بثلاثة دولارات. فهو أفضل جودة من ذلك الذي ينسخ في لبنان ولا يتجاوز سعره دولاراً واحداً. لكنّ بضاعته ليست مرخصة وقد يتعرض في أيّ لحظة للدهم من قبل الجهاز الأمني. وهو ما يدفعه إلى تقديم رشوة شهرية إلى مسؤول في الجهاز بمبلغ كبير يستثنيه من المداهمات. لكنّ هذا الأمر لا يحميه دائماً، فقد قرر أحد المسؤولين البدلاء يوماً المداهمة، وبالفعل صادر أقراصاً مدمجة جديدة تصل قيمتها إلى 5 آلاف دولار، وسجلت مخالفة على المتجر تعادل المبلغ. لم يتمكن الشاهد من التهرب من المخالفة، لكنّ بضاعته التي صودرت تمكن من استرجاعها بعد الاتصال بالمسؤول "المتعاون" واستبدالها ببضائع قديمة من المخزن "تستخدم في الحالات الطارئة".
في إحدى المؤسسات الخدمية الرسمية، موظفة تجبي فواتير المواطنين. هي واحدة من عدة موظفين لكلّ منهم صندوقه وشباكه. لكنّها الوحيدة من بينهم التي تطلب زيادة على كلّ فاتورة ألف ليرة لبنانية (0.67 دولار أميركي). قليلاً ما يناقشها أحدهم، ففي النهاية "ليست سوى ألف ليرة" كما يقول البعض. لكنّ ما لا ينتبهون له هو أنّها تجبي على الأقل 100 فاتورة يومياً. ولكم أن تحسبوا كم يدرّ لها "دهاؤها" شهرياً.
يشير أحد الموظفين الحكوميين لـ"العربي الجديد" إلى أنّ كلّ حالة لها رشوتها المعروفة. فالبعض "يجهز علب سيجار للموظفين، والبعض الآخر أونصات ذهب". وكلّ هذا بهدف تجنب تسجيل مخالفة ما، أو بهدف تسهيل معاملة ما.
لكنّ الأمر يتجاوز ذلك أحياناً. وهنالك قضية شهيرة حصلت قبل فترة ولو خارج لبنان. فقد ألقت الشرطة في سنغافورة القبض على ثلاثة حكام لبنانيين لاتهامهم "بتقاضي رشوة جنسية مقابل التلاعب بمباراة". وبالفعل أدانهم القضاء السنغافوري وحكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات.
وفي كرة القدم اللبنانية كذلك، فضيحة كبيرة أخرى عن لاعبين في المنتخب الوطني وفي بعض الأندية الكبرى تقاضوا رشاوى مالية من مكاتب مراهنات عالمية مقابل التلاعب بنتائج المباريات. وهو تلاعب قلص حظوظ منتخب لبنان في الوصول إلى نهائيات كأس العالم 2014.
بعض الرشاوى تتجاوز حدود المعقول أحياناً. ومن ذلك ما يقوله لـ"العربي الجديد" تاجر توسط لدى شقيق مدير فرع مصرفي من أجل الحصول على قرض كبير تبلغ قيمته 150 ألف دولار أميركي. قال له الشقيق: "خذ بيدك هدية وقل له إنّي من أرسلك". أخذ التاجر بالفعل عباءة فاخرة الصنع كهدية، فاستقبله المدير للحظات وسرعان ما رفض طلب القرض. ذهب المالك مجدداً إلى شقيق المدير وأخبره بما حصل. لكنّ الأخير قال له بتهكم: "أهذه هديتك!؟ من الآخر الهدية 20 ألف دولار".. وبالفعل حصل الصناعي على القرض بعد الاتفاق اللازم على "الأتعاب".
كذلك يقول الخبير القضائي إنّ رشاوى السجل العقاري هي الأكبر على الإطلاق، ومن ذلك قصة عن موظف سجّل متر الأرض بمائة دولار أميركي بدلاً من ألف دولار، على أن يتقاضى من الراشي ربع الفرق الذي وفره. ويتابع الخبير أنّ ذلك الموظف تقاضى 50 ألف دولار يومها وهو يبني قصراً في ضيعته.. من عرق "شطارته" لا جبينه.
أين القوانين والقضاء اللبناني من ذلك؟ يشير قانون العقوبات اللبناني إلى أنّ عقوبة المرتشي والراشي تتراوح من 3 أشهر إلى 3 سنوات حبساً، لكنّ "معظم الحالات لا تصل إلى المحاكم عادة فلا مصلحة لأحد بذلك" بحسب المحامية ديالا شحادة. كما تشير شحادة لـ"العربي الجديد" إلى أنّ العقوبات الداخلية في المؤسسات لا تشمل الطرد من الوظيفة، بل أقصى ما يمكن أن يحدث تخفيض الرتبة أو الدرجة الوظيفية.
اقرأ أيضاً: الرشوة كلمة السر في سجون مصر
وعن تعطل القضاء اللبناني تجاه مثل هذه القضايا، يقول الخبير القضائي لـ"العربي الجديد": "بالرغم من الحديث الفولكلوري عن انفصال السلطات، يدخل القضاء ضمن الإدارة العامة، وبالتالي فإنّ النظام الوظيفي العام يُخضِع الإدارات التابعة له إلى مجلس الوزراء. ما يعني أنّ القضاء في إدارته خاضع للسلطة التنفيذية وليس مستقلاً". وبالحديث عن الرشوة يقول: "الفساد في الإدارة يخلق مساحة مهيأة للرشوة بنتيجة عدم استقلالية الإدارة أولاً، وعدم تسوية رواتب الموظفين ومنحهم حقوقهم ثانياً، وغياب أخلاقيات المهنة لدى الموظف ثالثاً، خصوصاً أنّه معيّن من قبل السلطة السياسية عبر لوائح أسماء تقدم لمجلس الوزراء ويقرّها. أما مجلس الخدمة المدنية (المكلف أساساً برفد الدولة بالموظفين من خلال مباريات كفاءة) فكذبة كبيرة".
ويخوض الخبير أكثر في الممارسات اليومية للموظفين: "الأخلاقيات أهم من التأهيل العلمي. في الخارج يمنَع على الموظفين التعرّف على المواطنين أو تعريف المواطنين بأنفسهم. هنا تنتشر المحاباة بين المواطن والموظف. والأخطر أنّه لا جرأة لدى الموظف على منع أحدهم من تلك المحاباة لأنّه سيحاسب من مرجعيته السياسية".
ويعطي الخبير أمثلة عن الرشاوى منها ما يدخل في إطار "الحلوينة"، أو "التعبة" أو "فنجان القهوة" أو "الإكرامية"، وهي تسميات تدل على الرشوة الخفيفة التي لا يتجاوز سقفها 100 دولار أميركي، أو صفيحة (تنكة) زيت زيتون وما شابه. وتشمل تسريع معاملة ما في الدوائر مثلاً. وهي مصطلحات تهدف إلى "إلباس الرشوة ثوب اللباقة الناعم" بحسب الخبير، ما يشرّع الرشوة بدوره.
وهناك رشاوى أكبر بكثير، ومنها ما يتعلق بعمل المحامين: "العمود الفقري لعمل المحامي سرعة البت بملف القضية. فمحامٍ تتطلب منه الدعوى عاماً وثانٍ 10 أعوام. يطلب الثاني 3 آلاف دولار، بينما يطلب الأول 10 آلاف. وحجته رشوة من سيسرّعون ملف القضية في المحكمة".
ومن هذا أيضاً قدرة الموظف العقاري على إعاقة إنهاء معاملة مدة 30 يوماً. وقدرته كذلك على إنهائها في يوم واحد. وبما أنّ صاحب العلاقة من بائع ومشتر يهمهما إنهاؤها بأسرع وقت ممكن، فلا بدّ من الرشوة. وهي رشوة قد تصل إلى مبلغ خيالي "100 ألف دولار إذا كانت عملية البيع تتجاوز 2 مليون دولار".
ويبقى الحديث عن تفعيل أجهزة الرقابة في الدولة، الذي يسميه الخبير بـ"الكذبة الكبيرة" أيضاً. فـ"التفعيل يتطلب موقفاً من رئيس البلاد أو رئيس مجلس الوزراء، يقول فيه للموظفين: أنتم القطاع العام ونريد إدارة حقيقية، ومن يحاول أن يتكلم معكم خارج الإطار الوظيفي استدعوا الشرطة من أجله"... لكن أيّ رئيس سيفعلها؟ لم يحن الوقت بعد.
اقرأ أيضاً: حقوق لبنانية فاسدة