"تجليات ما بعد الغربة": بحثاً عن خصب مفقود

25 اغسطس 2019
"صمت" لـ فاروق حسن (من المعرض)
+ الخط -

منذ ستينيات القرن الماضي، استحوذت عوالم ألف ليلة وليلة وغيرها من الأساطير التي يحتشد بها التراث العربي على تجارب العديد من الفنانين التشكيليين العرب، ويأتي ذلك بعد أكثر من قرن ونصف على بدء الاهتمام الغربي بالموضوع ذاته، ضمن عملية تخييل للآخر ظهرت في لوحات العديد من المستشرقين.

تنوّعت التجارب العربية في هذا السياق، إذ قدّم الفنان السوري سعد يكن (1950) أعمالاً حاولت أن تبتعد عن الفضاءات الإكزوتيكية والغنائية التي نظر من خلالها الغرب إلى الشرق، بينما تتبّع الفنان العراقي حسن عبد علوان (1945) البعد الفنتازي والغرائبي للشخصيات التي صوّرها.

في منطقة قريبة، برزت أعمال الفنان العراقي فاروق حسن (1939) الذي افتُتح في الحادي والعشرين من الشهر الجاري معرضه "تجليات ما بعد الغربة" في "غاليري الأورفلي" بعمّان، ويتواصل حتى الرابع من الشهر المقبل. تعود بدايات التشكيلي العراقي إلى ستينيات القرن الماضي بعد تخرّجه من "معهد الفنون الجميلة" في بغداد عام 1958، حين قدّم معارض ضمن موجة الواقعية التعبيرية في مدينة البصرة وفي العراق عموماً، والتي سعى المنخرطون فيها إلى توظيف رموز وشخصيات من التراث العربي.

قدّم حسن، في تلك المرحلة، رسومات استوحت العديد من القصص العربية الشعبية؛ مثل سيف بن ذي يزن وأبطال كليلة ودمنة والزير أبو ليلى المهلهل، وبالطبع حضرت حكايات ألف ليلة وليلة، إلى جانب أعمال تجاورت مع نصوص لشعراء من الجاهلية وصولاً إلى العهد العباسي.

باستخدام الألوان الزيتية على القماش على أحجام متنوعة، نفّذ لوحات توثّق لموضوعات اجتماعية وشعبية تميّزت بتلوينها الذي يعتمد البساطة والتلقائية مستفيداً من دراسته الأكاديمية، ثم توجّه بعدها إلى استعمال خامات مختلفة مثل المعدن والأسلاك والخشب، منوّعاً أيضاً من أساليبه التي تراوحت بين الحفر والنحت والرسم.

في مرحلة متقدّمة منذ التسعينيات، بدأت الوجوه النسائية بملامح واضحة أو مموّهة تتسرّب إلى لوحته، مع اقتراب أكثر من التجريد، وقد طوّر في هذا الاتجاه أشكالاً عديدة يتضمّن معرضه الحالي جزءاً منها، لكنه سيعود بعد احتلال العراق عام 2003، إلى الأساطير السومرية والبابلية وتقديم أعمال تقترب من الأحداث المأساوية التي تشهدها بلاده.

بين مسارين واقعي ورمزي، تبلورت تجربة حسن في بحث بصري متواصل عن الجمال والخصب والحب المفتقد في الزمن الراهن، وعن تفاصيل الحياة اليومية التي تُصوّر تداعيات الحرب؛ تلك الثيمة التي ظلّت مهيمنة على المسرح والتشكيل في العراق بشكل أساسي طوال أكثر من أربعين عاماً في توظيفات مختلفة.

تُشكّل الوجوه النسائية محوراً لا يغيب في معظم تجربته، التي يحاول من خلالها إبراز المفارقة التي تمثّلها المرأة بين الماضي الذي يحتفي بها كأصل للحياة وولادة الكون، لتصبح اليوم رمزاً للاضطهاد والعنف، وفي هذا الاختزال تحضر الكثير من الأشكال الهندسية التي تحيل إلى تلك الأنوثة بين غيابها وتحقّقها. في لوحات أخرى من المعرض، تهبط المرأة إلى الواقع في مشاهد حياتية كانت جزءاً اعتيادياً ونمطياً داخل الأسرة العراقية، حيث تجلس أمام المرآة وتلتفت إلى زينتها، أو تستلقي على مقعد، أو تقوم بأشغالها المنزلية، في حالاتها المتعدّدة؛ وحيدة وفرحة وحزينة ومتأمّلة أيضاَ.

المساهمون