تحت شعار "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب" الذي يختصر اسمها، بدأت حركة "بيغيدا" الألمانية تحركاتها المعادية للمسلمين في خريف العام الماضي من مدينة دريسدن، عاصمة ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا. وجاء الاعتداء على صحيفة "شارلي ايبدو" الفرنسية الأسبوع الماضي، ليكون سبباً إضافياً في تكثيف تحركات هذه الحركة ومحاولة زيادة عدد مؤيديها والتوسّع نحو مناطق ألمانية ودول أوروبية أخرى.
هذه الحركة التي اعتادت التظاهر كل يوم اثنين، استطاعت أن تحشد في تظاهرتها الثانية عشرة، يوم الاثنين الذي تلا هجوم باريس، حوالي عشرين ألف مشارك، وفق ما أعلنت عنه وسائل الإعلام الألمانية.
لكن "بيغيدا" قالت إن عدد المشاركين وصل إلى حوالي أربعين ألف متظاهر، وهو الرقم الذي شكّك فيه كثيرون ممن يمثّلون الرأي العام الالماني، معتبرين أنها محاولة من الحركة للقول إنها تفوّقت على التظاهرة المناهضة لها التي نُظّمت في معقلها في دريسدن قبل تحركها بيومين وقُدّر عدد المشاركين فيها بـ35 ألفاً.
وكانت حكومة ساكسونيا، هي التي دعت إلى التظاهرة منددة بالشعارات والهتافات المناهضة للإسلام التي ترفعها "بيغيدا"، ودعت للانفتاح على العالم والتضامن الانساني وتعزيز روح الديمقراطية.
ومنذ اعتداء باريس، يسعى القيّمون على "بيغيدا" لشدّ عصب الشارع الألماني وتوسيع دائرة تحركاتهم وتنظيم تظاهرات في أكثر من مدينة ألمانية، كديسلدورف وفرانكفورت وكولن، وهذا ما لم ينجحوا في تحقيقه لغاية الآن، بسبب عدم وجود مناصرين لهم في غرب البلاد، واقتصار حضورهم على شرق ألمانيا وفي مدينة دريسدن بشكل أساسي.
لكن وفي موازاة ذلك، تبذل "بيغيدا" جهوداً لتوسيع تحركاتها في أوروبا، وقد أنشئ لهذه الغاية صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن المتوقع أن تنظم أول مسيرة لها في نهاية يناير/كانون الثاني الحالي في فيينا والسويد والنروج.
في المقابل، سُجّلت تحركات ومواقف سياسية واجتماعية في مواجهة "بيغيدا"، كان أبرزها التظاهرة التي نظّمتها يوم الثلاثاء جمعية "المجلس المركزي للمسلمين" و"رابطة الجالية التركية" في برلين، "من أجل ألمانيا منفتحة ومتسامحة ومع حرية الدين والرأي" امام بوابة براندبورغ، واعتبرتها الصحافة الألمانية حدثاً تاريخياً، واصفة إياها بـ"تظاهرة برلين الإسلامية".
وقد سُجّلت في هذه التظاهرة مشاركة واسعة من المسؤولين الألمان، على رأسهم الرئيس الألماني يواكيم غوك، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ونائبها سيغمار غابريال، ووزراء آخرون بينهم وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير.
وعلى الرغم من تأكيد "بيغيدا" أنّ هدفها هو الدفاع عن المبادئ "اليهودية-المسيحية"، فإن شعاراتها لا تدعو فقط إلى عدم "أسلمة الغرب" بل تتعداها إلى رفض استقبال المهاجرين وطالبي اللجوء، معتبرة أن الأجانب يهيمنون على فرص العمل في البلاد ويتسببون بفقدانهم لوظائفهم وبالتالي زيادة نسبة البطالة في أوساط الشعب الألماني.
وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات لدى الكثير من المراقبين على اعتبار أنّ نسبة البطالة بلغت مع نهاية العام الماضي 9,3 في المائة في شرق ألمانيا حيث مركز مناصري "بيغيدا"، وهي المنطقة التي لا يتعدى تواجد الأجانب فيها 3 في المائة، بينما بلغت البطالة 5,7 في غرب البلاد.
ويطالب مؤيدو "بيغيدا" الشعب الألماني "بأن يستفيق للخطر الذي يمثّله المتطرفون الاسلاميون"، كما يدعون الحكومة لتقييد حركة الهجرة إلى البلاد، متهمين السلطات بالتقاعس في تطبيق القوانين.
ويرى خبراء اقتصاديون أن شرق ألمانيا، وبعد مرور 25 سنة على الوحدة وعلى الرغم من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتّبعتها الدولة وتنفيذها العديد من المشاريع والعمل على جذب الاستثمارات من أجل إنعاش دورة الحياة فيها، لم تنجح في تحقيق التقدم المطلوب، ويردّون السبب إلى عدم تمكن المواطنين في ما كان يعرف بـ"ألمانيا الشرقية" من السير بركب الثورة الصناعية والمعلوماتية والتجارية والخدماتية التي حققتها البلاد منذ ذلك الوقت. ويرى هؤلاء أن هذا الواقع هو نتيجة عدم قدرة وطاقة مواطني المنطقة الشرقية على الانخراط في مجالات العمل.
وما يدحض ايضاً كل ادعاءات "بيغيدا"، أن المجتمع الالماني يُصنّف على أنّه "هرم" إلى حد ما، ومن المقدر أن ينخفض عدد السكان في العام 2050 إلى 60 مليون نسمة، ما يسمح لألمانيا باستقبال ما يزيد عن 500 ألف مهاجر سنوياً، ولا سيما أنها تُعتبر الاقتصاد الأكبر في القارة الأوروبية، وهي من الدول الصناعية المنافسة على مستوى العالم وبحاجة إلى اليد العاملة، كما أنها تعتمد على الأسواق الخارجية، وسياساتها قائمة على الانفتاح.
أما فيما يتعلق بالحديث عن "أسلمة" المانيا، فهو أمر لا ينطبق على واقع هذا البلد الذي يبلغ عدد المسلمين فيه 5 ملايين نسمة، معظمهم من الأتراك، من أصل حوالي 81 مليوناً، ولكن بعد الفوضى التي عمّت المنطقة العربية وظهور الفكر التكفيري، أصبح هذا الأمر ذريعة في يد هؤلاء لتوظيفها من أجل شن حملة على المسلمين بشكل عام.
وما ساهم في زيادة هذه المخاوف، انتشار ظاهرة الإرهاب والتطرف في أوروبا ومغادرة أعداد من المواطنين للقتال في صفوف الجماعات المتطرفة في كل من سورية والعراق، وفق ما أكدته تقارير الاستخبارات الألمانية، مشيرة إلى مخاوف من عودتهم وتنفيذهم اعتداءات.
ويُعرف عن مناصري "بيغيدا" أنهم ينتمون بشكل أساسي إلى الطبقة الوسطى ومشاغبي كرة القدم اليمينيين المتطرفين والنازيين الجدد، وبرز أخيراً تأييد أعضاء حزب "إي أف دي" (البديل لألمانيا) للحركة، فقد وصف ألكسندر غاولاند، أحد زعماء هذا الحزب، مؤيدي "بيغيدا" بـ"الحلفاء الطبيعيين". ويُعرف "البديل لألماني" بأنه حزب يميني معارض للاتحاد الأوروبي، وتتقاطع مطالبه مع مطالب الحركة لجهة تشديد شروط الهجرة.
وكانت انطلاقة "بيغيدا" قد بدأت عبر صفحة على موقع "فيسبوك" وصل عدد مؤيديها لغاية اليوم إلى حوالي 40 ألفاً. وأنشأها مواطن ألماني يدعى لوتز باخمان (41 عاماً) مع تأكيده على أنه ليس عنصرياً، ويعترف بأنه مجرم سابق دين بجرائم منها الاتجار بالمخدرات، وأنه قضى فترة في السجن.
ومن أبرز الشعارات التي يرفعها المشاركون في هذه التظاهرات "نحن الشعب"، وهو الشعار نفسه الذي رفعه المتظاهرون في ألمانيا الديمقراطية السابقة قبيل انهيار جدار برلين وإعادة توحيد البلاد. كما أنهم يرفعون صورة لميركل المعارضة لحركتهم وهي ترتدي الزي الإسلامي.
ووفقاً لمجلة "دير شبيغل" الألمانية، فإن الحركة اتبعت أسلوباً جديداً لمهاجمة أعدائها من الأجانب والمسلمين، مأخوذ من عبارات وأساليب دعائية اتبعها الزعيم النازي أدولف هتلر لمهاجمة أعدائه.
وقالت المجلة "وفقاً لما استطعنا الوصول إليه من معلومات داخل مجموعات مغلقة تابعة لأعضاء وأنصار بيغيدا، فإنه كان من الملاحظ أن العبارات المستخدمة لذم الأجانب مقتبسة من أقوال سابقة لهتلر، وقريبة من دعايته".
مع العلم، أنّ ما يُعرف عن "الايديولوجية السياسية" و"التنفيذية" لألمانيا هو الحفاظ على جميع الأقليات على أراضيها، والحث على تحقيق الاندماج الفعلي وتأمين كل سبل العيش، إضافة إلى التعليم وتحقيق الأمن الاجتماعي وتقديم الدعم والمساندة من اجل تعزيز كل أواصر الحوار والمعرفة بين جميع مكوناتهم.
وانطلاقاً من هذا الواقع، تؤكد معظم التحليلات والتقارير الألمانية أن ظاهرة "بيغيدا" لا يمكن أنّ تتوسع ولن تجد لها أرضية خصبة او حيثية تُذكر، إذ لم يستطع قبل ذلك أي حزب يميني متطرف، أن ينافس الأحزاب التقليدية أو السيطرة على مناصب مؤثرة في الدولة، تسمح له بالعمل على عزل أو اضطهاد الأقليات في البلاد.
وتجدر الاشارة إلى أنّ ألمانيا استقبلت العدد الأكبر من اللاجئين العام الماضي، معظمهم من السوريين، وقد تقدّم أكثر من 180 ألف شخص بطلبات للجوء إليها، كما أن هناك توجّهاً في العديد من المدن للبدء ببناء مجمّعات سكنية لإيواء هؤلاء وأغلبهم فارون من الحروب الأهلية وسوء الأحوال المعيشية في بلادهم.