ليس هناك ستارة في "بيتنا"، إذ ننتقل كجمهور من العتمة إلى نور خافت مُسلّط على طاولة مستطيلة الشكل، تقبع وسط خشبة المسرح ويقف أمامها عمر راجح، الراقص والمؤلف والمخرج المسرحي، وأصحابه الراقصون وعازف الإيقاع الفلسطيني يوسف حبيش، بينما يقف العوّادون الثلاثة وهم يحملون آلاتهم على بعد خطوتين منها.
أما السيدة مي بو فرحات، والدة عمر، فتقف أمام ميكروفون في زاوية المسرح اليمنى، قرب الجمهور، لتعلن له أنها ستحضّر اليوم طبقاً من الفتوش ومن ثم تتجه نحو الطاولة، وكقائد الأوركسترا، تقف في المنتصف لتعلن بدء العمل.
وحين يهمّ العوّادون زياد الأحمدية وسمير نصر الدين وزياد سحاب بالحركة، اعتقدنا جميعاً أنهم سيبدأون بالعزف، لكنهم توجّهوا هم أيضاً إلى الطاولة حيث وضعوا الأعواد عليها وارتدوا في أيديهم كفوفاً مطاطية كي يبدأوا بتقطيع البصل وفرم البندورة... يضحك الجمهور!
في خلفية المشهد، يظهر عدّاد رقمي على شاشة سوداء فنراقبه. للوهلة الأولى يخيّل للمرء أنه يساعد أفراد المجموعة على أداء مهامهم من رقص أو عزف في الوقت المحددّ، لكن كان لهذا العداد وظيفة أخرى غير معرِفة الزمن الذي يمضي. فعندما وصل العدّ إلى الدقيقة 19:59، وفي لعبة ذكية، لا يقلب إلى الدقيقة العشرين بل تخرج أرقام الثواني عن دورانها التقليدي حتى تصل إلى العدد 75، ليصبح العدد الكامل 1975 وتُحذف النقطتان اللتان تفصلهما.
ولا تكتفي هذه الشاشة الخلفية بعرض هذا العداد "الذكي"، بل تذكّر بأقسام العرض الثلاثة وهي على التوالي؛ "فتوش"، "خلّاط"، "مخلوطة"، وكذلك تُعرض عليها بالأسود والأبيض مقاطع من تدريبات للراقصين.
ينطلق راجح من "بيته" الصغير الذي عرف الاستقلال والحرية كما عرف الحرب، إلى "بيتنا" الكبير. بيتٌ فيه حركة الجسد هي لغة التواصل، حيث يفتح الرقص، وليد الحركة، "آفاقاً أوسع وأكبر للعلاقة بين المرسل والمتلقي" كما يقول صاحب المشروع الذي لا يحبّذ لغة الخطابة.
يرقص لنا الأوروبي أو الغربي (أوغستنجين)، كما يرقص الأسيوي (مون) والأفريقي (أناني)، كذلك راجح العربي يجيد الرقص أيضاً. وهو هنا لا يقدّم استعراضاً مجانياً لتنوّع ثقافات الشعوب من خلال استقدام مصمّمي رقص من بلاد بعيدة وثقافات مختلفة، بل يذهب إلى فكرة أن بإمكاننا اللقاء والتقارب والحوار، أن نجتمع في سلام، في "بيتنا" هذا برغم الاختلاف.
يقول راجح في إحدى حواراته مع الصحافة أن أساس العرض قد استوحاه من فكرة "الجَمعة" العائلية حول مائدة الطعام، فمن سيحضّر هذه المائدة؟
في "بيتنا" كما في كل بيوتنا، يساعد الأبناء والدتهم في التحضير إن كان الزوار كثراً، فكيف إذا كان الابن قد أتى بأصحابه وزاد عليهم من الضيوف ما يقارب المائتي شخصٍ؟ سيشمّر عمر وأصحابه بالطبع عن سواعدهم أما الضيوف فلا، في "بيتنا" نكرّم الضيف في زيارته الأولى فلا نطلب منه المساعدة.
أم عمر قد أعدّت كل شيء ووزّعت المهام على الشبّان، ولكن لا بأس من خروج واحد من أهل البيت أو أكثر في استراحة ليرقص أو ليعزف على العود، كمن يخرج إلى الشرفة ليدخّن سيجارته، ويعود مجدّداً فيرتدي قفازات المطبخ ويعاود العمل.
إنّها المرّة الأولى التي تصعد فيها السيدة مي إلى المسرح، لم يُربكها الأمر طالما أن دورها هنا هو دور قد حفظته عن ظهر قلب، وهو طهو الطعام بمحبة لأهل البيت ولأصدقائهم وضيوفهم الذين حضروا.يقول المثل الدارج "الأم بتلمّ"، كذلك البيت يَلُم. وبيت عمر راجح الذي يبنيه هو بيت ثقافة وفن، والثقافة والفن تجمعنا كلنا حين تفرقتنا أهواء السياسة والمعتقدات الدينية أو الطائفية. الرقص والموسيقى والطعام هي فنون تعمل على كسر الحدود ما بين الشعوب.
لم يقتصر استمتاع الجمهور بالعرض من خلال الفرجة من مكانه على المدرج، بل حالما دعته الأم اتجه نحو خشبة المسرح مشاركاً في "بيتنا" جميعاً، ليتناول طعاماً لبنانياً أو مشرقياً يعتمد على الخلط مثل الفتّوش والمخلوطة، بالإضافة إلى المناقيش، وليرقص عمر وأصدقاؤه مجدّداً بين الجمهور الذي احتل المسرح في فوضى خلاقة ولتشاركهم فتاة ألمانية في عرض فردي مرتجل عزف له نصر الدين.
خاتمةً، للنقد المختص ما يقوله في العرض، ولكن الحالة التي عشناها ليلتها، واحتفال الجمهور الألمان الهائل بالعرض وبأصحابه يبرر تقديم تحية خاصة لسفراء الألفة.