"بهمش"

18 نوفمبر 2015

صورة من الحملة التي نظّمها فلسطينيون ردّاً على المحتل

+ الخط -

"بهمش" مفردة واحدة أصبحت عنوان حملة إلكترونية، دشنها نشطاء فلسطينيون على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار فيديو لرجل خمسيني من الخليل، يدعى زياد هليل، يرد على أحد جنود الاحتلال يشكو له الشباب الخلايلة، راشقي الحجارة بقوله: "بهمش خليهم يضربوا".

"بهمش" كلمة خليلية (وفلسطينية عموماً) أصيلة، وتجرى على ألسنة أهل غزة أيضاً وتحديداً، لأن مدينة الخليل أقرب مدن الضفة الغربية إلى قطاع غزة. وتعني الكلمة أن الأمر ليس مهماً، ويعتبر إحياؤها في حملة إلكترونية بمثابة فتيل السعادة الذي أشعل الذاكرة الفلسطينية بمفرداتٍ قاربت على الانقراض، بسبب اختلاط  أهل المدن بأهل القرى، وتنوع اللهجات، ودخول اللغة الفيسبوكية في الحوارات المباشرة. ويرى أخصائيون في اللهجات الفلسطينية أن 50% من مفردات اللهجة الخليلية (نسبة لأهل الخليل) تعتمد على كسر بداية الكلمة، مثل مدينة غزة، ولا تتشابه مدينة أخرى في الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948مع الخليل وغزة، بل تعتمد ضم بداية المفردات غالباً. وقد كان هذا التشابه والقرب الجغرافي السبب في أن تكون غزة، والخليل خصوصاً، شوكتين في حلق العدو، والربط بينهما حتمياً، علاوة على ما يروج دوماً أن رجال الخليل وغزة وشبابهما يمتازون بصلابة الرأس وقوة الشكيمة، ولا يذكر الخليلي إلا ويلي ذكره أخوه الغزاوي، في طرائف تناقلتها الأجيال، تنم عن كرم وبساطة، لكن البطولات النضالية طمستها وعلت عليها.

"بهمش" طمأن بها تاجر خضار خليلي جدي بعد النكبة بقليل، وكان جدي يشتري منه الخضار والفواكه بالجملة، ويوزعها على صغار الباعة، ولم يكن يملك ثمن البضاعة التي قام بتهريبها من الظاهرية (قضاء الخليل)، لأنه كان يحاول أن يلملم شتات نفسه وروحه، بعد الهجرة من يافا، والاستقرار في غزة.

"بهمش" قالها جدي لابنته قبل ستين عاماً، حين اشتكت له ظلم زوجها وقسوة أمه، والعمل المضني ما بين فلاحة الأرض، وجلب الماء بالجرّة من النبع الواقع على أطراف القرية، وسكب حماتها الجرّة على الأرض، وطلبها منها أن تعيد الكرّة، إمعاناً في تأكيد سطوتها. وكان جدي يستمع لها، وهو مطرق الرأس، وأجابها بكلمة واحدة "بهمش"، وعادت عمتي على إثرها لمواصلة حياة العناء والشقاء، وحملها أولادها فوق أكتافهم، تقديراً لصبرها، حين تقدم بها العمر حتى وفاتها.

"بهمش" قالتها جدتي لأمي، لكي تصبر، وتتحمل الألم، وهي تعاني من آلام المخاض بطفلها الأخير، لليوم السابع على التوالي، وكان من العيب أن تذهب المرأة إلى طبيبٍ رجل لكي يولدها، وكان مجرد ذكر كلمة مستشفى يعني شق البطن وإخراج الجنين بجراحة، ثم خياطة، وهذا ما يثير الذعر لدى الحامل والمحيطين بها. وكانت جدتي تعرب عن قلقها خلسةً أمام أبي. وهكذا، لم يكن أمام أمي سوى تحمل الألم، مع نصائح الداية (القابلة) ووصفاتها، وكان علي أن أقطع الطريق كل يوم، من بيتنا إلى بيت القابلة مرات، لكي أناديها، لتسرع إلى أمي، كلما اشتد الألم، وأتحمل تأففها وتوعدها أبي، إن لم يمنحها مبلغاً مجزياً.

"بهمش" قلتها لجارتي، وهي تشتكي بطالة أولادها الأربعة، ونفاد الطحين الذي تتسلمه من "أونروا"، وبعد تاريخ المعونة المقبلة، فذكرتها بأنها تحملت أكثر من ذلك، وبأن الأيام ستمضي سريعاً، حتى يهل أول الشهر، وتتسلّم مخصصاتها وتعجن وتخبز، ونصحتها أن تقترض، كعادتها، كيلو من الطحين من جارتنا، أم خليل، وكيلو آخر من جارتنا، أم بسام.

"بهمش" قالتها لطفلها، بعد خروجهما من المشفى الحكومي، حين سألها هل ستشتري له الدواء الذي وصفه الطبيب، وهو لا يدرك أن والده بلا عمل، وأن البيت فارغ من الطعام والمال، لكنها ردت عليه بهذه الكلمة، وهي تعتقد أنها سوف تداويه بحبها ودعائها.

"بهمش" كلمة تعني أن السفن كلها قد أحرقت خلف هذا الشعب، وأنه اعتاد أن يتجرع المرّ ويلوك الصبر، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.