يتخذ المسؤولون والقوى النافذة في لبنان طابع التشدد بذريعة التهديدات الأمنية، وهو ما دفعهم منذ سنوات إلى التضييق على الناس بإقفال الطرقات وملئها بالحواجز الإسمنتية. لكن، تلوح بارقة أمل
في السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية اللبنانية حتى منتصف التسعينيات، أزيل كثير من مظاهر تلك الحرب، خصوصاً المتاريس الرملية الكبيرة التي تفصل مناطق بأكملها بعضها عن بعض، والمكعبات الإسمنتية العملاقة، المعروفة بـ"الدشم"، التي تحدّد مناطق السيطرة في الأحياء والزواريب. لكنّ قطع الطرقات والتضييق على المواطنين لم يغيبا تماماً، بل عادا في مناسبات كثيرة، حتى تحولت تلك الدشم بأشكالها وأحجامها المختلفة، والعوارض الحديدية الأرضية، والقلّابة، والبوابات الضخمة، إلى جزء من مشهد السلام اللبناني الملتبس في السنوات الأخيرة.
تراث من الإقفال
العودة البارزة بدأت مع التهديدات الأمنية للبنان، وموجة التفجيرات التي ضربته بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية عام 2011. لكنّ أحداثاً عدة أقفلت الطرقات أيضاً قبل ذلك التاريخ، والحدث الأكبر كان اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري، عام 2005، وموجة تفجيرات واغتيالات أعقبته، وما جرّه كلّ ذلك من اصطفاف سياسي بين فريقي (14 آذار) و(8 آذار)، وصلت إلى حدّ الاصطدام في مايو/ أيار 2008. ففي أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، استقال الوزراء التابعون لقوى الثامن من آذار من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، واعتبرتها تلك القوى حكومة غير ميثاقية، ما دفعها إلى محاولة إسقاطها في الشارع من خلال اعتصام كبير أمام السرايا الحكومي، أقفل وسط بيروت بالكامل طوال عام ونصف العام.
لم ينتهِ الاعتصام، ومعه إقفال وسط العاصمة إلّا باتفاق الدوحة 2008، الذي أعقب حرباً أهلية مصغّرة بين الفريقين السياسيين، وأدى إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، أزالت الحواجز الحجرية والحديدية من الطرقات ومهّدت لانتخابات نيابية عام 2009. وبعد حكومة جديدة وإسقاطها في عام، وحكومة أخرى اتخذت خيار "النأي بالنفس" عن الصراع في المنطقة، لا سيما في سورية عام 2011، عادت الحواجز الأمنية والطرقات المقفلة، بكثافة أكبر من كلّ فترات السلام اللبناني السابقة، مع بدء موجات تفجير، طاولت المدنيين في مناطق لبنانية عدة، لا سيما في الضاحية الجنوبية لبيروت، وما قيل عن تهديدات بالاغتيال ضدّ سياسيين.
نهج جديد
هكذا، يضع المواطن اللبناني منذ سنوات عديدة خريطة طرقات خارجة عن المألوف، في رأسه. فعند هذه النقطة لا يمكنه أن يمرّ بسيارته، وعند تلك النقطة لا يمكنه المرور حتى مشياً، وعند نقطة ثالثة سيخضع للتفتيش راكباً أو راجلاً، وعند نقطة رابعة سيتحمل ازدحام سير كثيف تسببه المساحة المتقلصة للشارع بفعل عوارض حديدية أو بلوكات حجرية على الجانبين، وعند خامسة لا يتمكن من ركن سيارته بسبب القوائم الحديدية. ومن المؤسسات الرسمية، بما فيها من وزارات وإدارات ومراكز أمنية وثكنات عسكرية، مصوّنة بالحجر والمعدن، إلى منازل زعماء وسياسيين ورجال دين، ومكاتب حزبية، وصولاً إلى بعثات أممية ودبلوماسية، كلّها اتخذت استراتيجية واحدة، عبر تحويل مبانيها إلى قلاع أمنية مدعمة بالجدران والعوارض، عدا عن الأمنيين والحراس. وهي استراتيجية لا تبالي بالسكان الذين تصعّب هذه الإجراءات حياتهم.
لكنّ كلّ ذلك انتهى الآن، بحسب وزيرة الداخلية والبلديات في الحكومة الجديدة، ريّا الحسن، إذ بدأت الشهر الماضي، من أمام وزارتها بالذات، بإزالة جميع بلوكات الإسمنت، لتتابع في الأيام القليلة الماضية فتح طرقات لم يكن أحدٌ يظنّ أنّ بإمكانها فتحها، خصوصاً الطريق التي أقفلها رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمام سكنه، قصر عين التينة، بالقرب من شاطئ الرملة البيضاء في بيروت. فقد أزيلت، يوم الأربعاء الماضي، الحواجز الإسمنتية والبلوكات والعوارض الحديدية، ومعها الأسلاك الشائكة. كانت خطوة كبيرة تحمل في الوقت عينه كثيراً من الرمزية، إذ إنّ برّي بالذات حين يدعم مثل هذه الخطوة يعني الأمر أن ينقل العدوى إلى حليفه حزب الله وما يقع في مناطق نفوذه من تنظيم للإقفال، حتى إنّ الناس هناك لا يكادون يذكرون الوضع إلّا على هذه الحال، بالرغم من امتعاض كثيرين، خصوصاً من أصحاب المتاجر وسائقي سيارات الأجرة.
كذلك، يعني تعاون بري مع الحسن تعاون الفريق السياسي الذي تنتمي إليه، تيار المستقبل، برئاسة رئيس الحكومة نفسه سعد الحريري، في إزالة العوارض من أمام قصر قريطم، وبيت الوسط، ومقرات تيار المستقبل، وربما من أمام السرايا الحكومي، ومن أمام دار الفتوى. كلّ ذلك لم يحصل بعد، وإن بدأت عمليات الإزالة وإعلانات بعض الشخصيات السياسية عن الترحيب بذلك.
بانتظار المزيد
يوم الخميس الماضي، بعد يوم واحد على فتح الطريق المحاذي لقصر عين التينة، كانت بيروت مزدحمة، في ساعات الظهيرة، فما بالك إذا ما كانت أمطار مارس/ آذار تشارك بفاعلية في رفع المعدل الكبير لتساقطات العام الجاري؟ النتيجة ازدحام أكبر، خصوصاً مع صيانة بعض الطرقات، واستمرار إقفال أخرى في وسط العاصمة. الجولة في بيروت وضاحيتها الجنوبية قد تتطلّب ساعات طويلة لرصد الشوارع التي اعتاد السكان إقفالها بكاملها، لكنّ الدراجة النارية تفي بالغرض تماماً بالرغم من الأمطار. وهكذا كانت جولة لـ"العربي الجديد" نستعرض فيها بعض الوقائع.
طريق عين التينة المفتوحة ذكّرت العابرين بصيدلية كبيرة، تقع في "المنطقة المحظورة" وهكذا اضطرت للإقفال في إحدى السنوات الماضية، ولعلّها تفتح أبوابها مجدداً. خلف فندق "روتانا" في محلة الروشة، مركز للحزب السوري القومي الاجتماعي، أقفل الطريق أمامه منذ سنوات، لكنّه فتح الآن، وإن بقيت العوارض الحديدية القلّابة منذرة بإقفاله في أيّ لحظة. ومع الحزب نفسه، فإنّ البراميل الإسمنتية والعوارض الحديدية ما زالت في مكانها المعتاد في الشارع الذي يقع فيه منزل أحد زعمائه في محلة الحمراء، لكنّ مقرّ الحزب في شارع قريب أزيلت من أمامه العوارض بشكل شبه كامل. الشارع الذي يقع فيه قصر قريطم، الخاص بالرئيس الحريري، ما زال على حاله، من عوارض وحواجز وتحصينات وأمنيين، وإن كان مفتوحاً. أما الشارع الذي يقع أسفله ويؤدي إلى الجامعة اللبنانية الأميركية، فقد كان مفتوحاً بشكل شبه كامل، إذ أقفلت نهايته بعارضة حديدية، وربما يفتح تماماً في أيام أخرى. تفرعات شارع كليمنصو المؤدية إلى قصر الزعيم الدرزي، وليد جنبلاط، مقفلة بالعوارض القلّابة والأمنيين، وفي الشارع نفسه بلوكات حجرية وعوارض حديدية كثيرة هناك. تلك العوارض والبلوكات كثيرة أيضاً في وسط بيروت في الشوارع المؤدية إلى البرلمان والسرايا الحكومي، مع قطع بعض الطرقات أيضاً، خصوصاً أمام مبنى الإسكوا.
بالحديث عن البعثات الأممية، فإنّ ناظرة مدرسة "إميلي سرسق" الرسمية، لور رمال، في محيط مبنى اليونسكو، تجاه مدينة بيروت الرياضية، تطلب من "العربي الجديد" تسليط الضوء على ضرورة إزالة البلوكات الإسمنتية المحيطة بالمبنى، إذ تمنع تلاميذ خمس مدارس رسمية، هناك، بالإضافة إلى تلاميذ آخرين وموظفين، من المشي على الرصيف، ما يضطرهم للتنقل بين السيارات، معرضين حياتهم للخطر، "علماً أنّ المدارس تعتمد نظام الدوامين، ما يعني أنّ التلاميذ ينصرفون في ساعات المساء المعتمة".
بالقرب من المكان، تقع السفارة المصرية، من جهة، والشارع أمامها مقفل منذ تظاهرات عام 2009 المطالبة بفتح معبر رفح، إذ كان قطاع غزة يشهد عدواناً إسرائيلياً يومها. ومن الجهة المقابلة، على بعد مئات الأمتار تقع السفارة الكويتية، وأمامها تحصينات عدة، كما أنّ الطريق الدائري مقفل من إحدى الجهات أمامها، وذلك على خلفية اعتداء ضد مكتب تابع للسفارة قبل سنوات وإن كان بعيداً عن المكان. مع الاتجاه غرباً، تقع السفارة الإيرانية، وهناك تحصينات أمنية وحواجز للجيش اللبناني، أكبر بكثير، إذ وقع تفجير عند مدخلها عام 2014، بالإضافة إلى تفجير آخر طاول المستشارية الثقافية الإيرانية التي انتقلت إلى داخل السفارة منذ ذلك الحين. كذلك، يقع مركز لحركة أمل، على بعد أمتار من السفارة الإيرانية، له تحصيناته الكبيرة المميزة باللون الأخضر. ومن محلة الجناح وصولاً إلى الرملة البيضاء بلوكات على امتداد الشارع المؤدي من السفارة الجزائرية إلى السفارة العراقية التي تتميز بدورها بحائط إسمنتي على جانبي بوابتها الرئيسة.
في الضاحية الجنوبية لبيروت حواجز أمنية تابعة إما للجيش اللبناني، أو لقوى الأمن العام، أو لقوى الأمن الداخلي، عند كلّ مدخل إليها من الجهات كافة. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ التحصينات تحيط بكثير من المباني هناك، كحال مستشفى الرسول الأعظم بمبنييه، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ومبنى الإفتاء الجعفري، والمؤسسات والمكاتب الدينية التابعة للمراجع الشيعة؛ لبنانيين وعراقيين وإيرانيين. كذلك، فإنّ المساجد والمجمعات التابعة لحزب الله تحيط ببعضها بوابات حديدية، وعوارض قلّابة ضخمة ليس لها من مثيل في أماكن أخرى من بيروت، تقفل في المناسبات والاحتفالات، وبعضها أسبوعي، عدا عن الأمنيين الحزبيين الموجودين في تلك الأماكن.
تقول، رنا الساحلي، مسؤولة قسم العلاقات الإعلامية في حزب الله، لـ"العربي الجديد"، إنّ الحزب يرحّب بقرار فتح الطرقات، وتشدد على أنّ لجنته الأمنية ستنسق مع وزارة الداخلية بخصوص الطرقات في الضاحية الجنوبية، مشيرة إلى فتح بعض الشوارع قبل فترة، واحتمال فتح بعضها الآخر لاحقاً مما "لم يعد في حاجة إلى حماية".