"حرب الخليج لم تقع" هو عنوان مقال كتبه المفكّر الفرنسي جان بودريار (1929 - 2007) سنة 1991. بالنسبة إليه، كانت هذه الحرب التي نقلتها وسائل الإعلام بشكل موسّع فرصةً لتطبيق نظرياته حول "الميتاواقع"، أي ذلك الواقع المصطَنع الذي يُخفي الواقع الحقيقي، وهي اللعبة التي تقوم بها الميديا حين تكدّس الصور، وفي لحظة ما تصطنعها، ليجري إلغاء الواقع الحقيقي، أو حجبه على الأقل.
شيء كهذا نلتقطه في حبكة مسرحية "بلاتو" للمخرج التونسي غازي الزغباني. وكما أن حرب الخليج حين وصلتنا عبر وسائل الإعلام جاءت على غير حقيقتها، كذلك هو الأمر مع الحرب على الإرهاب التي تقع اليوم.
يبدأ العرض بجملة تظهر على الشاشة "هذا العمل من نسج الخيال، وأي تشابه بينه وبين الواقع مقصود، ولا يمتّ للصدفة بصلة"، ثم يظهر "كاميرامان" على الخشبة، ليرتسم على الشاشة ما يصوّره: وجوه المشاهدين في الصفوف الأمامية أولاً، قبل أن يدخل إلى الكواليس؛ حيث يستعدّ الممثّلون، مدخل يوحي بالكثير للمتفرّج، ويضعه في صدمة "الميتاواقع".
في أول مشاهد المسرحية، يُنقذ مشرّدان؛ رجل وامرأة (أداء يحيى فايدي وفاطمة بن سعيدان)، شابّاً أثناء محاولته الانتحار. فجأةً، تُدوّي صفّارات البوليس وهي تبحث عن المتحيّل الشهير "منصف فاليرا"، والذي لم يكن سوى ذلك الشاب الذي نجح مرّة أخرى في الهروب من الشرطة.
تنطفئ الأضواء، ثم تظهر على الشاشة فسيفساء صور من مئات القنوات التلفزيونية، من العراق وسورية وتونس وغيرها، تشحن مخيّلة المتفرّج بمشاهد التفجيرات والإعدامات والاحتجاجات، قبل أن تحطّ المسرحية، في المشهد الموالي، داخل إحدى المؤسّسات التلفزيونية؛ الهاجس اليومي نفسه: أعلى نسب مشاهدة. يضغط مدير القناة، سي الجيلاني (محمد حسين قريع) على موظّفيه في سبيل إيجاد أي شيء مثير، ويشير لهم بضرورة الحديث عن الإرهاب، فهو الذي يستقطب معظم الاهتمام الجماهيري.
اقتبس الزغباني مسرحيته من نص "نيكراسوف" (1955) لـ جان بول سارتر. كثيرة هي الانتقالات بين المسرحية الجديدة والنص الأصلي. مثلاً، تشكّل الجريدة الفضاء الذي تقع فيه معظم أحداث "نيكراسوف"، أما في "بلاتو"، فإن التلفزيون هو مركز ثقل العمل.
يقول الزغباني، في حديث إلى "العربي الجديد"، إن "الفكرة كانت في ذهني من 2001، مع بداية التناول الإعلامي الكبير للظواهر الإرهابية، ولكنني لم أكتبها إلا في 2015ـ بعد أن تبلورت الفكرة في مسار السنوات الأربع الأخيرة".
يضيف "أعجبتني هيكلة الحكاية في "نيكراسوف"، ولفتني فيها عنصر انتحال الشخصية والقفزات في الأحداث". يعتبر الزغباني أنه قدّم اقتباساً حرّاً للنص الأصلي الذي يبدو، بمعنى ما، نصاً مسرحياً ميتاً باعتبار أنه يتحدّث عن الاشتراكية والخوف من زحفها في فرنسا.
على مستوى الشخصيات، يشير المتحدّث إلى أنه تصرّف بحرية فيها؛ حيث أعطى لها أبعاداً تونسية، واضعاً في كل دور ملامح من عدّة شخصيات عامة، دون الإحالة إلى شخصية بعينها، كأصحاب القنوات التلفزيونية أو مرشّحي الرئاسة. إضافات الزعباني تتجاوز ذلك إلى صيغة العمل الذي أضاف إليه بعداً سردياً مباشراً؛ إذ يحدّث الممثّلون المشاهدين بما سيدور، كما وضع لمسات فرجوية، واستعمل رؤية سينمائية في عمله لتبدو المسرحية وكأنها خضعت إلى عملية مونتاج.
لعل نقطة الالتقاء الثابتة بين الأصل والاقتباس، وهي شكلية، هو اسم "فاليرا"، جورج دي فاليرا، المتحيّل في عمل سارتر الذي ينتحل صفة وزير سوفياتي، ومنصف فاليرا، المتحيّل في عمل الزغباني الذي يأخذ صفة الإرهابي أبو تقي.
لا بد أن نلاحظ هنا أيضاً أن مصطلح الإرهاب قد انتقلت إحالاته بين عصر وآخر بطريقة بهلوانية، فإذا كان في النصف الثاني للقرن العشرين يحيل إلى المجموعات اليسارية التي تتبنّى العنف الثوري ونظرياته، فهو في بدايات هذا القرن يكاد يخصّ الجماعات الإسلامية المتطرّفة.
نلتقي مع فاليرا (أداء الزغباني) في مشهد آخر من المسرحية. ففي تواصل للمطاردة البوليسية الأولى، يقفز من أحد الشبابيك ليجد نفسه في بيت مقدّم برامج القناة التي كنّا في كواليسها، هناك يلتقي بابنة هذا الأخير؛ الصحافية الاستقصائية سامية (نجوى زهير) التي تتّخذ توجّهاً إعلامياً مغايراً، حيث تبحث عن الحقيقة (الواقع الغير مصطنع).
في هذه المحطة، يفهم فاليرا حاجة القناة إلى أخبار مثيرة عن الإرهاب. وبعد انتشار خبر هروب قائد تنظيم إرهابي وانشقاقه منه، يغيّر ملابسه ويعرض على الإعلامي أن يتحوّل إلى الإرهابي المطلوب؛ خطوة تجعله يراوغ المطاردة البوليسية المستمرّة، وتجعل القناة تحقّق بضربة واحدة نسب مشاهدة خرافية.
يتسارع هنا إيقاع الأحداث، يتجدّد اختلاط الواقع بالاصطناع، يلعب الزغباني دوراً جديداً؛ إنه الآن أبو تقي، بات عنصراً أساسياً في معادلة الإعلام الجديدة، ينبغي أن تطول اللعبة أكثر ما يمكن.
يبدأ أبو تقي في تقديم قائمات بأسماء الشخصيات المهدّدة بالاغتيال من قبل التنظيم الإرهابي، ويتحوّل هذا الأمر إلى مزاد، فتوضَع أسماء حسب الحاجة، كما تنزل عليه الطلبات ممن يريدون أن يكونوا في القائمة. هنا، تظهر شخصية "مدام بوعون" (فاطمة بن سعيدان أيضاً)، والتي تقوم بتوظيف اللعبة لصالح مطامحها السياسية في الانتخابات الرئاسية.
لم يكن أبو تقي، الإرهابي، سوى عنصر جديد ضمن مشهد الصراع حول السلطة الذي تعيشه البلاد. عنصر جديد يُفضي إلى إنشاء علاقات جديدة، ليصبح دينامو الأحداث هو التحالف الضمني داخل مثلّث الإعلام والسياسة والإرهاب. وفي مستوى معيّن، تُرفع الأقنعة، كما في لقاء مدام بوعون وأبو تقي في أحد المشاهد.
انتقال الزغباني أو بن سعيدان في الأداء من شخصية إلى أخرى، يرافقه انتقال بقية الممثّلين بين أدوار متعدّدة، فالنص الأصلي يقتضي عشرين شخصية، بينما أنجز المخرج هذا العمل بثمانية ممثّلين فقط (بشير الغرياني ونور الزرافي ورشيد عزوز، إضافة إلى الممثّلين المذكورين).
لعل الدورين اللذين لعبتهما نجوى زهير هما الأكثر تضاداً، فهي تلعب شخصية سارة، سكرتيرة مدير القناة، وسامية الصحافية الاستقصائية، دوران هما في النهاية موقعان على طرفي نقيض في الحياة الإعلامية.
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول زهير إن "الدورين تجسيد لما يمكن أن يفعله الإعلام: الأداة الإعلامية نفسُها يمكن أن تقدّم الحقيقة كما يمكن أن تقدّم المغالطات التي تحجبها"، وهي ترى أنه المسرحية لم تفعل سوى أن نقلت مشهداً في الحياة العامة إلى الخشبة.
في أحد المشاهد، تقول سامية: "لا تقمعني بتعلّة محاربة الإرهاب"، إنه الخطاب نفسه الذي تطلقه اليوم فئات في المجتمع التونسي تلمس شيئاً من التضييق على الحريات باسم الأولويات الأمنية. لكن السؤال الملح اليوم هو: هل هي أولويات حقيقية أم مصطنعة؟
اقرأ أيضاً: مسرحية "تونس": البلاد في ثلاث مقاطعات