ويظهر العمل المصور رجالاً بزي مقاتلين إسلاميين بمصاحبة تسجيل صوتي يبدو أنه مأخوذ عن تسجيل آخر لمقاتلي المعارضة السوريّة على "الانترنت"، باسم "المجلس الثوري العسكري" في حلب، يسقطون فيه طائرة للجيش السوري النظامي.
وبعد التكبير والتهليل، ينجح المقاتلون في إصابة الهدف الذي سرعان ما يكتشف المشاهد أنّه ليس سوى الفيل "دمبو" إحدى الشخصيّات الكرتونيّة الشهيرة لشركة "والت ديزني".
ويلفظ الفيل الصغير أنفاسه الأخيرة فيما يقف أمامه طفل صغير غاضب سرعان ما يوجه ركلة قوية إلى ساق الرجل الذي أطلق الصاروخ، ليقع الأخير أرضاً، وهو يتألم.
وبما أنّ "بانكسي" لم يوضح صراحة قصده من وراء بثّ هذا الفيديو، ولا الرسالة التي أراد إيصالها؛ فقد سارع زوار "يوتيوب" إلى إبداء وجهات نظرهم بالموضوع. ويلحظ المتابع مدى الانقسام الحاصل بين من يرى في المقطع تنبيهاً إلى حقوق الطفل المنتهكة في مناطق النزاع المسلح، ومنها سوريا، ومن يقرأ العمل على أنّه انتقاد لسياسة الدفع بالمزيد من مشاهد العنف التي تستقطب مشاهدي شاشات التلفزة، وبالتالي أموال الإعلان الطائلة.
و"إثارة الجدل" ليس أمراًغريباً على "بانكسي" الذي يصر على الاحتفاظ باسمه الحقيقي سراً حتى اليوم، والتفاته هذه المرّة إلى انتاج أعمال فيديو يزيد من هذا اللغط الدائر حوله، فيما إذا كان هذا الأمر مجرد "تكتيك" فني، أم تبنيّاً مستجداً لـ"الفيديو آرت"، على حساب، أو بالتوازي، مع شغفه الأصلي بالرسم على الجدران.
فنان "غرافيتي" سوري مقيم في بيروت، وأحد "مريدي" الفنان الشهير قال لـ"العربي الجديد" إنّه يتأرجح بين تأويلين للعمل، أولهما أنّ الفنان البريطاني "الثوري" يسخر بمرارة من طريقة تعاطي وكالات الأنباء مع "الحدث السوري" باعتباره "منجم ذهب" لترسيخ الصور النمطيّة عن أبناء هذه المنطقة من العالم، و"تسخيف جهودهم للخروج من واقعهم السياسي البائس، عبر تظهير أخطائهم اللوجستية، وتعميمها كأنّها هي الخيط الناظم لكل هذا الحراك الشعبي".
أمّا "التأويل" الثاني لمحدثنا الذي لن يفصح عن اسمه، قبل أن يفصح "بانكسي" ذاته عن اسمه الحقيقي، كما قال؛ فيذهب في اتجاه تفسير "لا يحبذه" عن كون "بانكسي" قد تقصّد التهكم على المعارضة السوريّة المسلحة مباشرة. لكنّ فنان الـ"غرافيتي" السوري الشاب، يستبعد هذا الاحتمال سريعاً، بالنظر إلى مواقف "بانكسي" المشرّفة من قضية فلسطين، دون أن يصادر حقّ "الفنان" في التعبير عن مواقفه أياً كانت، "وله في أدونيس أسوة حسنة!". لكنّ ذلك يظل مستبعداً، ما لم يعبّر "بانكسي" عنه بـ"صريح القول"، على حد تعبير معلّقنا.
وسبق لـ"بانكسي" أن شدً رحاله إلى الضفة الغربية في 2005، حيث وضع "لوحاته"على الجانب الفلسطيني من جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، راسماً صورتين باتتا معروفتين اليوم، تمثل إحداهما فتحة في الجدار تظهر للمشاهد وكأن شاطئاً جميلًا يمتد خلفه، وأخرى تجسد طفلة تحاول الطيران فوق الجدار بواسطة "بالونات" تحلق بها عالياً.
واشتهر "بانكسي" خلال تسعينيات القرن الماضي، وخاصّة بعد تصويره ملكة بريطانيا "إليزابيث الثانية" على هيئة "شامبانزي" في 2002، قبل أن يصدر كتاباً بعنوان "انطح الجدار برأسك". وهو الذي يصرّ على عدم عرض أعماله في المعارض والصالونات الفنية. لدرجة أنّه تسلل في أحد أيام 2005 إلى المتحف البريطاني ووضع قطعة من الحجر مرسوم عليها رجل وهو يدفع عربة تسوق، مظهراً الحجر وكأنه مأخوذ من أحد كهوف الإنسان القديم.
يذكر أنّ صالة مزادات "فاين آرت أوكشنز" الأميركية، باعت الأسبوع الماضي جداريّة له تحمل اسم "قبلة بين رجلي شرطة"، بمبلغ وصل إلى 575 ألف دولار، حيث سبق لهذا لعمل بالذات أن ظهر للمرة الأولى على جدار مبنى في مدينة "برايتون" (إنكلترا) عام 2005.
ولجأ "بانكسي" إلى وضع رقم هاتف قرب بعض رسوماته الأخيرة، بحيث يمكن لمشاهد عمله الاتصال به ليستمع إلى تسجيل صوتي لرجل يتحدث عن اللوحة، لكن لا يعرف إن كان المتحدث هو "بانكسي" نفسه أم لا. ما نعرفه على وجه الدقة هو أنّ "بانكسي" سبق له أن قال مرّة: "بعضهم يحاول أن يجعل العالم مكاناً أفضل، أما أنا فأحاول أن أجعل منه مكاناً أجمل، إن لم يعجبك رسمي، يمكنك محوه".