هل يدرك قارئ هذه الأيام كم أنه أكثر حظاً من قارئ القرن الثامن أو التاسع عشر؟ فكم من مفاتيح جديدة أعطيت له مع كل نظرية وفلسفة!
كثيرون من ظنواً مثلاً أن قراءة عمل مثل "موبي ديك" ستكون مضنية، حتى يُفاجأ قارئ الرواية بحيويتها رغم ضخامتها. لكن "موبي ديك" (1851) في زمانها، ستدفن صاحبها هيرمان ميلفيل، الذي تمر ذكرى ولادته اليوم، حياً، ثمّ ستحييه بعد وفاته.
أحب الأميركيون ميلفيل (1819- 1891) حين صدر عمله "تايبيه" (1847). يقال إنه كان الكتاب الأكثر مبيعاً سنة صدوره، ويتحدث فيه عن تجربته الشخصية كبحّار تحطّمت سفينته وخاف على نفسه من أكلة لحوم البشر.
بعد "تايبيه" كتب ميلفيل حكايات مشابهة راجت أيضاً، وأثناء ذلك كان يتفحّص الإنجيل وشكسبير وهوثرون، قراءاتٌ وُلدت بعدها "موبي ديك"، التي اعتبرها قرّاء مغامراته عملاً مستعصياً ومخيباً، فاختفى ميلفيل، ليس ككاتب، بل ككاتب مقروء أو الأكثر مبيعاً.
"موبي ديك" ليست موضوع هذا المقال، بل "بارتلبي، الناسخ"، قصة قصيرة كتبها ميلفيل سنة (1853)، وما إن تنتهي منها حتى تعتقد أنك قرأت للتو قصة لكافكا.
بارتلبي شخصية منفصلة، وجودها لا يعني حضورها، بتعبير دريدا، لا موجودة ولا غائبة، لا هي حية ولا ميتة. من المفترض أن بارتلبي يعمل كاتباً (ناسخاً) لدى المحامي (راوي القصة)، لكنه ناسخ يرفض النسخ (كما هو إبليس في النصوص المقدسة).
يعرّفنا الراوي إلى نفسه منذ أول سطر، فيتكلّم عن خصاله لنتعرف إلى محام في "وول ستريت" براغماتي وموضع ثقة الأغنياء وشخصية في غاية الحذر. بإمكاننا أن نستخدم هذه الخصال ضد الشخصية لدى فك طلاسم الحكاية، إذ إنها لا تؤهلها لفهم "ظاهرة بارتلبي".
هذا العجز عن الفهم، هو ما يجعل المحامي مسكوناً بمستخدَمه ومطارداً بشبح الموظف الغريب الشاحب والمخيف والصموت والعاصي. حتى إنه يروي قصة بارتلبي بعد موته بمدة طويلة.
لكن السؤال هو لماذا يختار ميلفيل راوياً يروي ما يجهله تماماً؟ وما هي المعادلة السردية التي يمكن أن تنتج عن ذلك؟ ولماذا أوكل القصة لراوٍ لا يبدو أنه يفهمها؟
نحن لا نستطيع اقتباس الكثير من كلام بارتلبي، فكل ما لديه في النص من سطور هو عبارة يستخدمها لرفض المهمات: "أفضّل ألا أفعل"، وعبارات معدودة لتحقير وإنكار الذات: "أريد أن أكون جماداً"، أو "أريد أن أكون قرطاسية" أو "أنا لست شيئاً بحد ذاته"، وقد يُشار إليه في موضع آخر بأنه "لا شيء"، يبدو أن ميلفيل منهمك دائماً بالفراغ والتبلّد وغياب المعنى.
دراسات كثيرة اعتبرت "بارتلبي" لغزاً وحاولت حلّه، منها ما بحث في شخصيات كتّاب عرفهم ميلفيل، مفترضة أنه هوثرون مثلاً (الذي جمعته به صداقة عميقة، وكان يلتقي به في بيت ريفي ابتاعه ميلفيل خصيصاً ليجتمع بأصدقائه الكتّاب).
وحين نقرأ وصف هوثرون لميلفيل في بعض يومياته ورسائله، نعثر على صفات بارتلبي الشاحبة نفسها، الذي يزداد حزناً مع الوقت، مثلما كان يقول هوثرون عن ميلفيل كلما مرة يلتقيه فيها.
دراسات أخرى وجدت في بارتلبي ضحية، ضحية "وول ستريت"، ضحية الثقافة الأميركية، واعتبرت أن القصة تقول الكثير عن مستقبل الإيديولوجيا الأميركية في مرحلة مبكرة.
أياً كان الأمر، فإن من يقرأ "بارتلبي" سيبدأ في التساؤل على الفور عن مصير هذه الشخصية، وما إن نكتشف الموت الذي ينتظرها يتغير السؤال إلى: أي نوع من الشخصيات كان هذا البارتلبي؟ وماذا حدث ليكون كذلك، ثم أي مصير ينتظر موظفاً أعزل ومعدماً في مكان مثل "وول ستريت".
يتوسّل المحامي في أحد مقاطع القصة لمستخدَمه أن يعمل: "قل إنك ستعمل غداً أو بعد غدٍ.. بارتلبي قل إنك ستنسخ بعض الأوراق، كن عقلانياً". فيجيب بارتلبي: "في هذه اللحظة أفضّل ألا أكون عقلانياً".
إذن نحن القراء شهود على انهيار شخصيتين؛ الرئيس الذي تعلّق بموظف رغم أنّه يحاول إخراجه من حياته، والمرؤوس المريض والذاهب إلى مصير الموت جوعاً، إنه لا يأكل كالآخرين، يقول الراوي "لا بد أنه يأكل اللغة، يأكل الوثائق التي ينكبّ عليها ليلاً نهاراً"، سنكتشف أيضاً أنه يعيش في المكتب ولا يخرج منه.
لا يفيد المحامي شعوره بمسؤولية مطلقة عن بارتلبي، فيحاول التخلص منه بأن يقرر استئجار مكتب آخر، قد يكون هذا المقطع من أكثر المشاهد عنفاً في القصة: يقف بارتلبي في الفراغ بينما يُزال عالمه من حوله، تزال قطع الأثاث، ثم الحاجز الذي كان يعمل من خلفه، بينما هو واقف دون أي رد فعل، وتفشل كل حيل التخلص منه، وحين يحاول المحامي دس النقود في يده، تسقط إذ لا يحرك بارتلبي ساكناً.
ليس بوسعنا، تقريباً، أن نجد دليلاً على أننا أمام شخصية بشريّة، ولكننا كقراء سنحاول أن نجعل منه لحماً ودماً. التفكيكيون ينظرون للشخصية بوصفها عادة وليست واقعاً، وربما كان ميلفيل يفعل الشيء نفسه حين جعل من متتالية الكلمات وآكل اللغة هذا، شيئاً اسمه "بارتلبي".
القصة حملت خصال كتابة تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة، وليست كثيرة القصص التي كُتبت مثلها في القرن التاسع عشر. وفيها ومنها يصل رعب الراوي وارتجافه وهو يتذكر الناسخ، إنه رعب كيركيجارد في "الخوف والارتعاش": "أليست فكرة مخيفة ومفجعة أن يكون هذا الذي مشى بيننا هو الله؟".