"انتفاضة 17 أكتوبر" اللبنانية: "السينما المؤجّلة"

06 يناير 2020
الانتفاضة اللبنانية: السينما لاحقاً (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -
يزداد الوضع اللبناني سوءاً. الخراب يلفّ بلداً واجتماعاً وأناساً. المصارف متعنّتة إزاء حقوق المودعين الذين ينتظرون راتباً، أو لديهم أموالٌ تُعينهم على أساسيات، وتُلبّي لهم حاجات، وسحبُ الأموال، من دون سببٍ أصلاً، حقٌّ لهم في كلّ وقت. الناشطون غير هادئين. يبتكرون أشكالاً مختلفة لمواجهة سلميّة لحيتان المال وتنانين السياسة والاقتصاد والإعلام. الانقلابات مُدوّية في الشرق الأوسط. الخوف كبيرٌ في بلدٍ مُنهك كلبنان من تبعات الانقلابات تلك. المصارف مُدركةٌ تماماً أنّها الأقوى، فتمارس ألاعيبها وإنْ خلافاً للقانون، فهي القانون الآن، ولا أحد قادرٌ على غلبتها، وإنْ يحدث أمرٌ كهذا فهو مؤقّت ونادر. لكن بيان ملحم خلف، نقيب المحامين في بيروت (3 يناير/ كانون الثاني 2020)، إزاء لا قانونية تصرّفات المصارف، يمنح أملاً بمصداقية "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، وسلميّتها ومدنيّتها وشرعيّتها وصوابيّتها.

البلد مضطرب. شابات الانتفاضة وشبابها في حالة استنفار مدني وسلمي. لكنّ الخراب قوي، وانتشاره في الأنحاء كلّها سريعٌ. سينمائيات الانتفاضة وسينمائيوها يجتهدون في تفعيل مشاركة أعمق وأهمّ فيها. يكتبون ويسألون ويسخرون وينكّتون ويضحكون ويتألّمون ويقولون ويبوحون ويكشفون ويفضحون، فذاكرتهم خصبة وحيّة، كذاكرة كثيرين. يُشاركون لأنهم معنيّون ببلدٍ يدأبون على التقاط حكاياته وتوثيقها كي لا تختفي وتُنسى. يتابعون مساراته منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، وبعضهم شاهدٌ على تلك الحرب، إمّا لإقامته في البلد أثناءها، وإمّا لتورّطه بها، وإمّا لمتابعة فصولها الدموية وتبدّلاتها المختلفة. يُدركون أنّ الصُور أساسية، لكنّ النقاش ضروري، كما العمل الميدانيّ السلميّ. يعرفون أنّ التوثيق مطلوب، لكنّ البحث عن آليات تحرّك سلميّ مهمّ. يذهبون إلى ساحات وشوارع، ويلتقون منتفضات ومنتفضين، ويُساجلون، فالسجال مدخلٌ إلى توضيحٍ أو معرفة أو عثور على بعض تلك الآليات، على الأقلّ.

سينمائيات الانتفاضة وسينمائيوها منهمكون في دفع المنتفضات والمنتفضين إلى الأمام، وهم معهم وإلى جانبهم، وأحياناً في الطليعة. فالانتفاضة غير مسبوقة، منذ النهاية المعلّقة لتلك الحرب الأهلية، وهم أكثر المتوغّلين في خفاياها (الحرب الأهلية)، التي تمنع سلطات البلد أياً يكن من مقاربتها. يكسرون الخوف منذ زمن، بإصرارهم على انتقاء مواضيع تمسّ أفراداً وجماعات، فتمنع سلطات البلد ـ منذ عام 1991 ـ الاقتراب منها لفضحها أفعالاً جُرمية متنوّعة يرتكبها أناس السلطات تلك أثناء الحرب وبعدها (من ضمن مسائل لبنانية أخرى يشتغلون عليها أيضاً). مواضيع تمسّ أفراداً وجماعات، ولو انفضّ أفرادٌ وجماعات عنها، فالخوف أقوى بالنسبة إلى كثيرين، والسلطات الطائفية متسلّطة عليهم. سينمائيات وسينمائيون لبنانيون عديدون ـ يُعاصرون الحرب وما قبلها، ويعرفون البلد بعد انتهائها الهشّ ـ يتابعون مسارات البلد وناسه، فيبحثون في أحوال وانفعالات، ويُصوّرون آلاماً وقلاقل، ويحرّضون على تأمّل وتنقيب. يُصرّون على لغة الصورة في محاولة كشف المبطّن والمحجوب، فيُنجزون أفلاماً بعضها ممنوع من العرض لغاية اليوم، فالسلطات القامعة تُحرّم تناول مواضيع تمسّ بتحكّمها وفسادها وسرقاتها.

انتساب سينمائيات وسينمائيين لبنانيين إلى "انتفاضة 17 أكتوبر" غير مفاجئ البتّة، والانتساب متمثّلٌ بمشاركة يومية في التظاهرات والاعتصامات والتجمّعات، وفي النقاشات والحوارات والكتابات. يعرفون أنّ الانتفاضة غير مسبوقة، وأنّ لبنانيات ولبنانيين كثيرين يحطّمون جدران الطائفية والطبقية والكانتونات الاجتماعية ـ المدينية، فيلتقون معاً من أجل حلم حقيقي ببلد مختلف. يعرفون أيضاً أنّ التغيير الحقيقي الجذري صعبٌ، والإصلاح الحقيقي الجذري صعبٌ، لكنّهم يُصرّون على ابتكار كلّ جديد ممكن لمواجهة الاهتراء والنهب والتشبيح بتحرّك سلمي مدني متين ومتماسك. الغضب طبيعي، وردود الفعل الناتجة عنه طبيعية، لكنّ الوعي بعدم الانجرار إلى العنف طاغٍ، وهذا صحّي وجميل.

للسينمائيات والسينمائيين اللبنانيين اهتمامات والتزامات غير متطابقة ومتشابهة، وهذا جزءٌ من يوميات عيشهم في البلد. لكنّ "انتفاضة 17 أكتوبر" تحثّهم على الاهتمام بها كتحرّك مدنيّ عفويّ سلميّ، يشملهم جميعاً، إزاء سلطات قامعة. يكونون في الساحات والشوارع، فيُصوّرون ما يتيسّر لهم، أو يكتفون بإعلاء الصوت لتأكيد انعدام الخوف والثبات على حقوقٍ مطلوبة، ولتأكيد حقّهم في الحصول على حقوقهم المهدورة والمنهوبة. يُصوّرون ويُسجّلون فهذا جزءٌ من حياتهم، لكنهم متيقّنون من أنّ الاستفادة السينمائية من الصُور والتسجيلات، وإنْ تكن ضرورية ومطلوبة، مؤجّلة، لأنّ الآنيّ منهمكٌ بالسعي إلى استرداد حقوق مهدورة ومنهوبة، والبلد أول مهدور ومنهوب.

تتعامل السلطات الحاكمة مع شابات الانتفاضة وشبابها بوحشيةٍ أحياناً، وبالتفاف واضح على القانون دائماً، فتستدعي منتفضات ومنتفضين إلى تحقيقاتٍ، جزءٌ كبيرٌ منها مخالف للقانون. هذا حاصلٌ مؤخّراً مع المخرج السينمائيّ ربيع الأمين، الذي يواجِه مصرفياً مشاركاً في حجز أموال المودعين الصغار من دون حقّ قانونيّ، فيمارس المصرفيّ ضغوطاً تُنتج استدعاء الأمين مرّتين إلى "مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية" (30 ديسمبر/ كانون الأول 2019، و3 يناير/ كانون الثاني 2020).

يزداد الوضع اللبناني سوءاً. لكنّ شابات "انتفاضة 17 أكتوبر" وشبابها، كما سينمائياتها وسينمائييها، منصرفون إلى مزيدٍ من المواجهة، مزوَّدين بحقوقٍ يريدونها، وبشرعيةِ كونهم مواطنين يعملون، مدنياً وسلمياً، على استعادة المنهوب منهم.

هذا يحصل حالياً. السينما مؤجّلة، وانتظار نتاجاتها لن يحول دون مشاركة كثيرات وكثيرين في تفعيل الانتفاضة اللبنانية.
المساهمون