"الوريثات" لمارسيلو مارتينسي: براعة التكثيف وجمالياته

02 مايو 2018
من "الوريثات" لمارسيلو مارتينسي (الموقع الإلكتروني لـ"برليناله")
+ الخط -
"الوريثات" (Las Herederas) ـ الحاصل على "الدب الفضي" لأفضل ممثلة (آنا برون) و"جائزة ألفرد باوير" (ضمن جوائز "الدب الفضي"، تُمنح ـ منذ عام 1987 ـ لفيلم يفتح آفاقًا جديدة في الفن السينمائي أو يُقدِّم رؤية جمالية مبتكرة وفريدة)، في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)" ـ هو الروائي الطويل الأول لمارسيلو مارتينسي (باراغواي، 1973)، الذي بدأ العمل السينمائي (أفلام قصيرة) منذ 9 أعوام. علمًا أنه نال عنه، في الدورة نفسها، جائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريسي)".

منذ اللقطة التأسيسية الأولى للفيلم، نستشفّ أن هناك الكثير مما هو مُوارِب ومسكوتٌ عنه. كلّ ما نُشاهِده في اللقطة بالكاد يُرى عبر فُرجة باب، تختلسُ تشيلا (برون) النظر عبرها. المُثير في الأمر أنها تختلس النظر لِمَا يحدث داخل منزلها، الذي صار يَتَردَّد عليه بعض علّية القوم، أو أثرياء باراغواي، لتفحُّصِ الممتلكات وشرائها، تلك التي تبيعها تشيلا، في محاولة منها للحيلولة دون انزلاقها السريع إلى ما دون خط الفقر، هي المنتمية سابقًا، كما نُلاحظ من خلال المنزل الفسيح ومُمتلكاتها ومُقتنياتها الثمينة المعروضة للبيع، إلى الطبقة البورجوازية.

استسلمت تشيلا لصديقتها ورفيقتها تشيكيتا (مارغريتا إيرون)، الساكنة معها منذ أعوام عديدة. تشيكيتا لا تُشرِف فقط على شرح أنواع المُمتلكات وتاريخها، ثم على بيعها، فهي تعرف كلّ شيء عنها، بل تضطلع أيضًا، فيما يُشبه دور الخادمة، بالأمور المنزلية والحياتية. ورغم علاقتهما الباردة والخالية من كلّ روح على نحو ملحوظ، فإن الغموض يُغَلِّفُها: هل هما كذلك بسبب الصعوبات المادية واكتئاب تشيلا؟ هل هناك علاقة كاملة بينهما، كانت أو لا تزال؟ أم أن الأمر مُجرّد تعاضُد وتعاطف واعتياد روتيني بين جسدين فارقتهما الشهوة؟




تشيكيتا، الوجه الحيوي في المنزل ومُحَرِّكة شؤون الحياة، نقيض تشيلا، الغارقة في العبوس والوجوم والكآبة. الأولى مُقبلة على الحياة، وتُقاوم الصعاب. ورغم ما تتعرّض له، تُسجن شهورًا نتيجة تراكم الديون عليها، فتتَقبَّل الأمر بِصَدر رحب. تشرع في ترتيب كلّ شيء قبل دخولها السجن، بما في ذلك توفير خادمة ريفية لتعتني بتشيلا، التي تنقلب حياتها كليًا، إذْ تجد نفسها كطفلٍ توفي والداه، وأصبح عليه مواجهة الحياة بمفرده، والاعتماد على نفسه، وشقّ طريقه لوحده. صحيحٌ أن تشيلا افتقدت تشيكيتا تمامًا، لكن مع زياراتها المُتكررة إلى السجن، أدركت مدى البون بينهما. أدركت، أيضًا، كيف أن الأخرى تعيش حياتها، رغم السجن، من دون تأثُّر بالغ. بينما هي، الحُرّة الطليقة، سجينة حُجرتها ووحدتها وحياتها الخاملة.

تلعب الصدفة دورها في حياة تشيلا. تطلب منها جارتها أن توصلها إلى مكان ما بسيارتها العتيقة، فتُرَحّب على مضض، لأنها لم تعد تقود السيارة منذ أعوام، ولم تعد تملك رخصة سوق سارية المفعول. سريعًا، تجد نفسها "متورّطة" في إيصال جارتها ورفيقاتها إلى ذاك المكان ليلعبن الورق. ثم، بعد رفضها في البداية، تبدأ بتقاضي المال مِنهُنّ. لاحقًا، تقوم بـ"توصيلات" خاصة، ذات طابع بورجوازي، تُخِرجُها تدريجيًا من عالمها المُغلق في حجرتها المنزلية، مع فُرشاتِها وألوانها ولوحاتِها، إلى حياة مُغايرة، خصوصًا بعد تعَرّفها على شابة مُتفجرة الأنوثة تُدعى آنجي (آنا إيفانوفا).

مع خروجها إلى العالم، تكتشف تشيلا ذاتها. وبتَعَرُّفها على آنجي، تستعيد شيئًا من حساسيتها الأنثوية ورغباتها الجسدية، المُرادفة كلّها لتحرُّر وانفتاح وتغيّر وإقبال على الحياة. لذا، لم يكن مُفاجئًا أبدًا رغبة تشيلا في نموذج الحياة المُتمرّدة ونضارة الشباب، المُجسَّدين في شخصية آنجي، رغم عدم إشباعها لرغبتها تلك مع آنجي تحديدًا.

مع اللقطة التأسيسية الثانية، نلمس التغيير: تشيلا تفتح الباب المُوارِب، ولا تكتفي بالتلصّص، ولا تشعر بالخوف، ولا تريد الانزواء. تواجه المُشترين بشخصية هادئة وواثقة بنفسها ومُعتزة بذاتها. الآن، بات المنزل مُشعًّا بالضياء، ومتخَفِّفًا من أثقال كثيرة سابقة: أثاث وأنتيكات ولوحات، وغيرها. تتخلّص تدريجيًا من إرثها الثقيل، الطبقي والمادي، فتُشفَ روحها.

يَتَّسِمُ "الوريثات" بالمرارة والحُزن الرهيف، لكنه غير مُغرِق في القتامة والتشاؤم والميلودراما. فنهايته مفتوحة على احتمالات مُستقبلية واعدة مُتعلّقة بحياة تشيلا، التي هي، من دون شك، نموذج لما ينبغي أن تكون عليه نساء كثيرات، في باراغواي وغيرها، بصرف النظر عن أي انتماء طبقي لهنّ. فالفيلم، الغائب فيه بشكلٍ ملحوظ أي عُنصر ذكوري، رسالة قوية مُوجَّهة إلى النساء، بشرائحهنّ وانتماءاتهن المختلفة. والجميل فيه، إلى رسالته السياسية والاجتماعية والنفسية، تقديمه ـ أساسًا ـ تلك الفئة العُمرية من النساء (بين أواخر خمسينياتهنّ ومنتصف ستينياتهنّ)، والتي تندر مشاهدتها على الشاشة الكبيرة.

في "الوريثات"، تعمَّد مارسيلو مارتينسي منح القليل، أو ما يكفي لتقديم الفيلم وتطوِّر قصته، تاركًا للمُشاهِد إعمال ذهنه لقراءة ما بين السطور وملء الفراغات، بالإضافة إلى مُتعة تخمين ما ستصير إليه الأمور، مع لذّة الغموض الناجم عن هذا كلّه. لكن، لا يعني هذا إطلاقًا أنه يميل إلى الغموض أو افتعال عمق غير موجود في الحبكة أو الشخصيات. ما يُحسب له أنه، بسيطرته ـ بإحكام بارع وملموس ـ على المُمثلات، بالإضافة إلى تمكُنِهنّ اللافت للانتباه من الأداء، استطاع أن يُخرِج من تعبيراتهنّ الجسدية ما يُغنيه عن الثرثرة والحشو، والإفصاح عن كثير مما يُمكن التعبير عنه من خلال الأداء.

المُفارقة أن هذا الأداء المُذهِل فعلاً جاء من مُمثلات هاويات، يقفنّ للمرّة الأولى أمام الكاميرا. بأدائهنّ بالغ العفوية، لا سيما نظرات العيون ونبرات الأصوت، نقلن بصدق وبساطة ومن دون عناء، الكثير والكثير. لذلك، لم يكن مُفاجِئًا أبدًا فوز الوافدة الجديدة آنا برون بجائزة التمثيل.
المساهمون