أفرزت الأيام الأخيرة في تونس مؤشرات عديدة تقود إلى الاستنتاج بأن شيئاً ما يحدث بين منطقة البحيرة (مقر نداء تونس) وحي مونتبليزير (مقر النهضة)، وأن جزءاً من جبل الجليد الذي راكمته الأحداث الأخيرة بين الطرفين بدأ بالذوبان.
وعلى الرغم من المواقف الظاهرة، إلا أن حبل الاتصالات لم ينقطع، وبقي الباب مفتوحاً للسماح بأي وساطات من أجل إقناع الطرفين بأن مصالحهما تتقاطع في مرحلة ما، تنطلق من الرئاسة مروراً بمجلس النواب حتى الوصول إلى الحكومة.
ملامح هذه التغيرات برزت في كلام مبطّن ورد في تصريحات زعيم "نداء تونس" الباجي قائد السبسي ورئيس "النهضة" راشد الغنوشي في الأيام الأخيرة، فقد ذكر زعيم "النداء" مساء الأحد أن حزبه كان يرغب في توسيع مشاوراته مع الجميع حول التحالفات النيابية، ولكن "أحد هذه الأطراف اختار دعم شقٍّ آخر"، أي أن "النهضة" اختارت دعم المرزوقي وعدم التحالف مع "النداء".
لكن الغنوشي ردّ مساء الإثنين، بعد لقاء ترتيبي للجلسة الأولى لمجلس النواب، مؤكداً أن "فرضية ترؤّس نائب من النهضة للمجلس الجديد ما زالت قائمة"، وهو تصريح يعني صراحة أن الالتقاء مع "نداء تونس" ما زال مطروحاً، وأن التسريبات التي تتحدث عن لقاء جمعهما قد تكون صحيحة.
كما أن تصريحاً من هذا النوع عشية انعقاد أولى جلسات المجلس، يقود إلى الاستنتاج بأن ترتيباً ما يبقى مطروحاً، وهو ما بدأ يتأكد مع تصريح الغنوشي اللافت، صباح أمس، عند انعقاد أولى جلسات مجلس النواب، حين قال للصحفيين "أظنّ أن هذه الجلسة ستؤجل لبضعة أيام لمزيد من التشاور والتباحث" مضيفاً أن "هناك بعض التوافقات الجديدة".
غير أن عقدة التقارب والتنافر بين أكبر حزبين في تونس تبقى رهينة الاتفاق على الرئاسة، فـ"النداء" أرجأ كل تحالفاته الممكنة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، رابطاً بشكل مباشر بين موقف "النهضة" من السباق وبين التقارب معها.
واعتبر الحزب أن "النهضة" فضّلت على مرشحه السبسي منافسه الرئيس الحالي منصف المرزوقي، فإعلانها الحياد قبل الانتخابات كان شكلياً، لأن الجميع يتحدث في تونس عن "تعليمات بالتصويت للمرزوقي" جرى تعميمها في الساعات الأخيرة من يوم الاقتراع، بالإضافة إلى مشاركة عدد من أنصارها كمراقبين في مراكز الاقتراع باسم المرزوقي، وهو ما دفع "النداء" إلى اعتبار أن موقف الحياد كان في الحقيقة يعني دعم المرزوقي.
وتبرز أهمية تصريح الغنوشي أنّ رئاسة مجلس النواب من قِبل "نهضوي" ما تزال ممكنة، فـ"نداء تونس" إذا خسر الانتخابات الرئاسية، لن يُفرّط لا في ترؤس المجلس ولا الحكومة، أما في حال فوزه بالرئاسة، فسيترك، وفق ما راج من تسريبات، رئاسة المجلس لـ"النهضة" ويوسّع تشكيل الحكومة، مع كل الصعوبات التي يطرحها هذا التشكيل.
غير أنّ "النهضة" تبدو في مأزق حقيقي، فدعمها للسبسي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية سيضعها في مواجهة أنصارها بشكل كبير، وقد تنتج عنه انقسامات داخل الحركة، كما يكشف مصدر قريب منها لـ"العربي الجديد".
ويؤكد المصدر أن "جرح الانتخابات التشريعية" كان عميقاً في صفوف أنصار "النهضة"، الذين وجدوا في المرزوقي ملجأ يعبّر عن طموحاتهم وأفكارهم، ويمنع منافسهم اللدود السبسي من تسجيل انتصار ثانٍ والسيطرة على كل مجالات الحكم في تونس، فانضمت حشود كبيرة منهم قُدّرت بمئات الآلاف إلى مؤيدي المرزوقي، وهو ما يضع قيادات "النهضة" في موقف حرج، خصوصاً مع "الكلام الجارح" الذي تشهده مواقع التواصل الاجتماعي بين أنصار الفريقين.
فاتخاذ قرار مناقض للدورة الأولى سيطرح على قيادات الحركة مواجهة القواعد التي حسمت أمرها بشكل واضح، ومهمة إقناعهم تبدو مستحيلة على الرغم مما يُعرف عن انضباط قواعد "النهضة".
غير أن تسريبات وصلت إلى "العربي الجديد" تؤكد أن بعض شباب "النهضة" البراغماتي أصبح يدعو إلى التزام دور المتفرج في الدور الثاني، وتبنّي موقف "الورقة البيضاء"، وإن كان هذا الصوت لا يزال خافتاً إلى حد الآن، فإنه يجد تفاعلاً من بعض قيادات الحركة التي عادت من جديد لتقييم حالات الربح والخسارة التي سيقود إليها موقفها من الدور الثاني للانتخابات.
ووجدت "النهضة" نفسها محرجة من موقفها السابق المتذبذب، فخرج زعيمها الغنوشي منذ أيام في فيديو نُشر على صفحة الحركة الرسمية، يدعو قيادات وأنصار حركته إلى التزام "الحياد التام" في السباق الرئاسي، وهو ما فسّره البعض بالدعوة إلى عدم الانضمام إلى حملة المرزوقي لوجيستياً، من دون أن يعني ذلك تأثيراً على حرية التصويت التي أتاحتها الحركة لأنصارها وداعميها.
في حين تقول تأويلات إن هذا الكلام يعني تغييراً في موقف الحركة من حالة الاحتقان الشديدة التي يشهدها التنافس الرئاسي، الذي تريد "النهضة" أن تبقى بعيدة عنه لتجنّب أي أذى قد يلحقها منه، خصوصاً بعد الحركات الاحتجاجية التي شهدتها بعض المدن التونسية في أعقاب تصريح السبسي، وهو ما دفع الغنوشي لدعوة أنصاره إلى عدم الخروج والمشاركة في أي تحرك شعبي، ولو كان من أجل مناصرة القضية الفلسطينية، التي ستتوفر فرص أخرى للتعبير عن دعمها، تفادياً لأعمال عنف قد تعرفها هذه التحركات.
وتقول مصادر مقرّبة من "النهضة" لـ"العربي الجديد" إن الحركة منزعجة من حدّة التوتر التي يشهدها السباق الرئاسي، وهذا ما جعل الغنوشي يلقي بثقله في الأيام الأخيرة ويذهب إلى لقاء المرزوقي لإقناعه بخفض حدّة المنافسة، والتخلي عن الطعون الانتخابية لتجاوز الأزمة الدستورية، وعدم تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية.
ولكن يبدو أن حسابات حملة المرزوقي مختلفة، فقد أعلن مدير الحملة عدنان منصر التمسّك باحترام الدستور، وأن التجاوزات الانتخابية كبيرة إلى الحد الذي لا يمكن معه التنازل عن الطعون.
هذا الأمر الذي أحرج الغنوشي، يعني أن الانتخابات ستتأجل إلى آخر موعد لها في 28 ديسمبر/كانون الأول الحالي (من دون تأكيد رسمي حتى الآن)، وهو الموعد الذي يتزامن مع عطلة نهاية السنة وعودة العائلات والطلبة إلى مدنهم وبلداتهم، وبالتالي سيتمكنون من المشاركة في الانتخابات، وهي حسابات انتخابية تتلاءم مع استراتيجية حملة المرزوقي فيما يبدو، ولكنها تحرج الغنوشي الذي بدا واثقاً من نجاح مهمته التلطيفية.