يسعى زعيم "المؤتمر الشعبي" السوداني المعارض، حسن الترابي، من وراء فكرة "النظام الخالف" التي اقترحها، إلى تبييض صورته السياسية، وهو المتهم بشقّ صفوف الإسلاميين. هذه الفكرة التي ابتدعها في شكل ورقة تحمل برنامج عمل عريضاً، تهدف، وفق ما يُروّج له "المؤتمر الشعبي"، إلى توحيد الأطياف الإسلامية في كيان واحد على شكل حزب واسع، ولا تقتصر على "الإخوان المسلمين"، بل تتعداهم إلى السلفيين وكل من له خلفية إسلامية، لخلافة النظام الحالي في الخرطوم، الذي يُعدّ الترابي مهندسه.
ففي عام 1989، وصل النظام الحالي إلى سدة الحكم، عبر انقلاب عسكري قاده إسلاميون بزعامة الترابي وبدأ الترتيب له منذ الستينيات، وبدأ التنفيذ الفعلي لاستراتيجية تسلُّم الحكم في 1988، للحد من أي ردة فعل مضادة من إضرابات واعتصامات وخلافه.
ويقول مقربون من الترابي لـ"العربي الجديد" إن الهدف من فكرة "النظام الخالف" لدى الترابي إعادة اللحمة بين الإسلاميين، ولا سيما أنه مُتَهم بشق صفوفهم، فضلاً عن تنقيح تاريخه السياسي، وإزالة كل ما علق به جراء تجربته في "إنقاذ" النظام الحالي.
لكن مراقبين يرون استحالة تنفيذ الخطوة، بالاستناد إلى تجارب الرجل السابقة والعداوة ضده داخلياً وخارجياً، بسبب شخصيته الغامضة والبرغماتية.
ويُحمّل إسلاميون الترابي مسؤولية انشقاق الحركة الإسلامية في البلاد، ففي عام 1980 خرجت مجموعة وتبنّت النهج الإخواني في التربية، وانضمت رسمياً إلى التنظيم الدولي لـ"الإخوان المسلمين" الذي يعارضه الترابي بشدة، ووقتها وجَّهت المجموعة انتقادات لاذعة للترابي حول القيادة ووَصفت شخصيته بالبرغماتية.
وللترابي طموحات كبيرة في الزعامة، بانت بوادرها منذ رفض الرجل أن يكون جزءاً من التنظيم العالمي لـ"الإخوان"، واقتراحه في عام 1987 إنشاء جهاز تنسيق دولي للحركات الإسلامية، لا يقتصر على الدول العربية، بل يتعداها ليضم الحركات الإسلامية في الدول المختلفة (تركيا، ماليزيا، باكستان وغيرها). ونظَّم في عام 1988 اجتماع الجبهة الإسلامية القومية لتحقيق ذلك الهدف. لكن هذه الخطوة لاقت وقتها اعتراضات من قِبل التنظيم الدولي، الذي اتهم الترابي بزرع بذور الشقاق داخل الحركات الإسلامية.
في عام 1991، أنشأ الترابي "المؤتمر الشعبي الإسلامي"، الذي جمع الحركات الإسلامية من الدول المختلفة وممثلي المنظمات الإسلامية في الغرب، فضلاً عن مجموعات راديكالية عربية، كحزب "البعث" العراقي والحزب "الاشتراكي" اليمني وبعض المنظمات الفلسطينية، بما فيها اليسارية واليمينية، وانتُخب وقتها أميناً عاماً للمؤتمر.
اقرأ أيضاً: معارضة السودان إلى مصر: تأجيج أزمة القاهرة والخرطوم
"اذهب للقصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً" مقولة شهيرة للترابي، عكست الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري في يونيو/حزيران من عام 1989. فكجزء من التمويه، قبع الترابي، في أيام الانقلاب، في السجن مع قيادات الحكومة الديمقراطية وقتها من الأحزاب المختلفة، لإيجاد دعم دولي للانقلاب قبل ظهور الإسلاميين في الصورة وامتصاص أي هجمة ضد الانقلاب، وهو ما تحقق بالفعل، إذ سارعت مصر إلى مباركة الانقلاب وحشد التأييد العربي.
ويقول القيادي في حزب "المؤتمر الشعبي" أبوبكر عبدالرازق لـ"العربي الجديد"، إن "التقديرات كانت أن يظل الترابي في السجن مع القيادات السياسية بين أسبوع إلى أسبوعين، لإدارة حوار سياسي معها لحكم البلاد بصورة مشتركة يتم الاتفاق عليها والعمل بمقتضاها، في إطار نظام ديمقراطي يوفّق بين الحرية والنظام، من دون أن يكون أحدهما خصماً للآخر فضلاً عن إيجاد سند دولي للانقلاب".
ويضيف أنه "بسبب مؤامرة قادها من يفكرون في وراثة السلطة والحركة الإسلامية، ظل الترابي سجيناً ثمانية أشهر"، لافتاً إلى أن "النائب الأول للرئيس ووزير النفط السابقين علي عثمان طه وعوض الجاز، كانا جزءاً من تلك المؤامرة، باعتبار أن الأول كان مسؤولاً عن إدارة الحركة والدولة، واستغل الفرصة في توثيق علاقته بالعسكر"، مشيراً إلى أنه "طيلة الأعوام العشرة التي سبقت المفاصلة بين الترابي والسلطة، كان علي عثمان الحاكم الفعلي، وليس الترابي كما يُروَّج له".
ويقول عبدالرازق إن كل الأحداث التي وقعت أيام وجود الترابي في السلطة من إعدام لـ"ضباط رمضان" الذين قادوا الانقلاب مطلع التسعينيات، إلى محاولة اغتيال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، كان الترابي يعلم بها بعد أن تتم، لافتاً إلى أن "محاولة اغتيال مبارك مثّلت الإشارة الأولى لانشقاق الإسلاميين، لأن الاستخبارات المصرية دفعت النظام للعملية، وغررت بمن ارتكبها، لزعزعة النظام وإدانته دولياً وشق الحركة الإسلامية، وهو ما نجحت فيه بالفعل".
وهناك من يرى في الترابي شخصية ديكتاتورية متذبذبة في اتخاذ القرارات، وعادة ما يجنح نحو اتخاذ القرارات بشكل فردي، باعتبار أنه لا يرى أن هناك من يعرف أكثر منه، فضلاً عن قدرته العالية على إقناع غيره بصحة قراراته.
كما يقول البعض إن مذكرة العشرة التي وقّعها قادة نظام الخرطوم ما قبل المفاصلة وطالبت بإصلاحات في الحزب والدولة وفي الشورى، نتاج طبيعي لإدارة الترابي. وكشف معاصرون لتلك الفترة، فضّلوا عدم ذكر أسمائهم، أن الرئيس السوداني عمر البشير كان يتفاجأ بتعيين وتغيير وزراء وسفراء في الدولة، وأن الترابي كان الحاكم الفعلي للبلاد، الأمر الذي أحدث حساسية عالية بينهما، وقاد إلى المفاصلة في عام 1999 بخروج الترابي من السلطة وتكوين حزب معارض، وكان أهم أسبابها الخلافات بشأن صلاحيات الرئيس في ما يتصل بتعيين حكام الولايات.
بعد المفاصلة تحسنت علاقات الخرطوم نسبياً مع الدول الغربية، ورعت الأخيرة مفاوضات السلام السودانية التي أنهت أطول حرب أهلية في أفريقيا، امتدت على مدى 21 عاماً، بتوقيع الحكومة مع "الحركة الشعبية" بقيادة الراحل، جونق قرنق، اتفاقية السلام الشامل في عام 2005 والتي أفضت في النهاية إلى انفصال الجنوب سلمياً وتكوين دولته المستقلة.
تُسجّل للترابي تصريحات متناقضة قبل وبعد السلطة، فأيام الإنقاذ الأولى وصف الرئيس السوداني عمر البشير بأنه هدية السماء للسودان وللحركة الإسلامية، قبل أن يعود ويصفه بالطاغية، ويجاهر بالمطالبة بتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت بحقة مذكرة توقيف بتهم ارتكاب جرائم في إقليم دارفور إلى جانب مسؤولين آخرين.
وعندما كان الترابي في سدة الحكم، كان يهاجم الغرب الذي في الأصل يعادي الترابي وينظر له كرجل مراوغ. ووقتها قال "إن حقوق الإنسان دين الغرب المدني". ولكن عند خروجه من أول عملية اعتقال بعد المفاصلة، أعلن أن إطلاق سراحه تم بضغط من الثوار السودانيين ومنظمات حقوق الإنسان.
ويعتبر المحلل السياسي علاء بشير أن التناقض في مواقف الترابي يعود لوقوعه بين شخصيتين لإحداهما دوافع إسلامية والأخرى علمانية، فضلاً عن أن الوصول إلى الحكم في السودان لا يتم إلا عبر الدخول في شخصية رجل الدين وفقاً لتكوين المجتمع السوداني، معتبراً أن "الواضح أن الترابي علماني غربي في تفكيره وفي فهمه للمسائل، وله اعتباره الكبير للعلم المادي، على الرغم من أن جذوره صوفية".
ويرى مقرّبون من الترابي فيه شخصية صعبة المراس لا يقبل بالهزيمة بسهوله، ونادراً ما يترك حقه، وإن لديه قدرة عالية على المراوغة والتمويه والتصميم.
وصول الترابي إلى سدة الحكم بعد شعار "اذهب للسلطة رئيساً وسأذهب للسجن سجيناً" جعل كثيرين يشككون في حقيقة المفاصلة نفسها، وعزز ذلك عودة العلاقة بين الترابي والنظام عقب دعوة البشير للحوار الوطني في يناير/كانون الثاني من العام الماضي، وتأييد الترابي للخطوة بقوة، وانتقال حزبه من المعارضة القاسية إلى الناعمة، وحتى إيجاد مبررات لممارسات النظام. حتى إن الترابي حاول اقتراح حلول للحزب الحاكم لتجاوز الاعتراضات على التعديلات الدستورية التي أُجريت أخيراً وألغت عملية انتخاب حكام الولايات عبر المواطنين وأعطت الرئيس سلطة تعيينهم، وهي الخطوة نفسها التي أدت إلى خروج الترابي عن السلطة في عام 1999.
خمسون عاماً قضاها الترابي كمتفرغ للعمل السياسي بشكل كامل، منها ما يزيد عن عشرة أعوام في السجن، جزء منها في عهد النظام الحالي، فيما تقلّد عدة مناصب سيادية في فترات متفاوتة، إذ شغل مناصب وزير الخارجية والعدل ومستشار الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري ورئيساً للبرلمان منذ 1996 وحتى المفاصلة.
ويقول أبوبكر عبدالرازق إن الترابي رجل كثير الاطلاع، ولديه القدرة على القراءة المتواصلة على مدار 24 ساعة، مؤكداً في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الترابي صارم في المسائل الفكرية وحاسم في المسائل الإدارية، وفي الوقت نفسه يحترم الاختلاف معه. ويضيف "لديه قدرة عالية على الصمت والغموض وفقاً لمتطلبات الواقع والظرف المكاني والزماني، كما لديه قدرة على الوضوح والصراحة"، مشيراً إلى أن "خصومه يهابونه ويكرهونه، فهو مقاتل سياسي شرس ومستفز، وفي الوقت نفسه لين الجانب ولطيف ولديه كاريزما"، موضحاً أن "الترابي عنيد لقناعته وأحياناً يسخر من نفسه وتجربته"، مشيراً إلى أن "الترابي ندم على تجربة الإنقاذ ووصفها بالخطأ التاريخي".
يُذكر أن الترابي من مواليد عام 1932، وهو من الأسر المعروفة في السودان بالعلم والدين واللغة العربية، والأخيرة تعلمها على يد والده ذي الميول الصوفي، لذا يُعرف الترابي بقدرته الهائلة على اللعب بمصطلحات اللغة طوال تاريخه السياسي. حتى إن مؤلفاته يصعب على الكثيرين فهمها. وعن ذلك قال أحد كوادر الحركة الإسلامية في وقت سابق "كنا نقرأ للترابي ولكننا لم نفهم شيئاً، وكنا نرى أن المشكلة في جهلنا، ولكن اتضح أن الرجل يقصد ذلك".
أكمل الترابي جزءاً من تعليمه في بريطانيا وفرنسا، ونال هناك درجتي الماجستير والدكتوراه بعد تخرّجه من كلية الحقوق في جامعة الخرطوم، الأمر الذي يرى مراقبون أنه أثّر في تكوين شخصيته، وفي التناقض الذي بدا واضحاً في مواقفه السياسية والفكرية، إذ يتجاذبه التكوين العلماني الغربي وجذوره الدينية في السودان. فالترابي هو من قدّم المرافعة القانونية والدستورية لحل الحزب "الشيوعي السوداني" في عام 1966 على خلفية جدل ديني، وقال وقتها إن باب الحريات هو الأضعف ويمكن التقيّد بالقانون كما يمكن عبر القانون أن تُصادر الحق الدستوري. كما أيّد في ثمانينيات القرن الماضي إعدام زعيم الجمهوريين محمود محمد طه بالردة، ليعود أخيراً ويتخذ موقفاً مغايراً.
وللترابي آراء فقهية جدلية، قادت بعض المتشددين إلى المطالبة بإهدار دمه، خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة، إذ أجاز إمامة المرأة للرجل في الصلاة، فضلاً عن زواج المسلمة من كتابي، إضافة إلى تشكيكه في صدق بعض الصحابة.