تمثّل بلدة سيدي بوسعيد مقصداً رئيسياً لزائري تونس العاصمة، ولعلّ من أبرز المحطات التي يقف عندها هؤلاء قصر البارون ديرلانجيه (1872 - 1932)، والذي بات يُعرف منذ سنوات بـ"قصر النجمة الزهراء"، بعد أن عادت ملكيته إلى الدولة التونسية وجرى تخصيصه كمتحف للآلات الموسيقية العربية، على خلفية أنّ البارون الفرنسي كان مؤرّخاً موسيقياً، وقد جمع النواة الأولى لمقتنيات المتحف.
غير أنه ليس من النادر أن يعتبر الزوّارُ المتحفَ ومقتنياته أمراً ثانوياً مقارنةً بالخصوصية المعمارية للقصر التي استلهمت عاملين: الأول تضاريسي؛ حيث يقع في منحدر بين البلدة في قمّة جبل، والبحر في أسفله، وبين هذين العنصرين يقدّم القصر مشهداً مفتوحاً على كامل خليج تونس.
أمّا العامل الثاني، فهو استلهام الروح المعمارية لسيدي بوسعيد في تشييد القصر، وهي روح لا تتعلّق فقط بالهندسة والزخرفة والألوان، بل أيضاً بجعل المبنى فضاءً لنوع من الحياة يقوم على مسار يومي هادئ مكرّس للتأمّل والكتابة والبحث والرسم، وهي النشاطات التي كان البارون ديرلانجيه يمارسها، وقد أصبحت بعده من "عادات سيدي بوسعيد"، حيث ستتحوّل البلدة التي كانت مقصد المتصوّفين للتأمّل بعيداً عن ضجيج مدينة تونس، إلى مقصد للفنّانين التشكيليّين؛ حيث يقفون على تركيبات بصرية فريدة تتيحها البلدة.
يمكن القول - بشيء من الحسرة - بأنّ المعلم قد فقد بالتدريج شيئاً من بريقه في السنوات الأخيرة، وهو ما يسري على مجمل سيدي بوسعيد، بسبب التوظيف السياحي المبالغ فيه من جهة، والتوظيف الإداري للمبنى؛ حيث تحتضن ردهاته أيضاً "مركز الموسيقى العربية والمتوسّطية" التابع لوزارة الثقافة التونسية، ما يجعل من الكثير من ردهاته مكرّسة لمكاتب الموظّفين وهي غير متاحة للزوّار بالطبع ما يجعل كل زيارة للقصر منقوصة.
قد يكون كتاب "النجمة الزهراء تبوح بكنوزها: الأعمال والقطع الفنية بقصر البارون رودولف ديرلنجي في سيدي بوسعيد"، الذي جرى إطلاقه أوّل أمس الجمعة في القصر خلال حفل إشهار قدّمه الكاتب والشاعر التونسي علي اللواتي، محاولةً لتجاوز هذا الطمس، حيث يضيء مؤلّفه منير الهنتاتي، وهو المحافظ السابق لـ "قصر النجمة الزهراء" بين 1995 إلى 2014، ما يحتويه المبنى من تفاصيل قلّما ينتبه لها الزائرون، كما يحيط القارئَ علماً بتاريخ أشياء كثيرة من المقتنيات والديكورات ومقاطع من حياة البارون ديلانجيه.
يقوم العمل بالأساس على الفوتوغرافيا؛ إذ يحتوي على 185 صورة التقطها كل من صالح جابر وفراس بن خليفة، إضافة إلى المؤلّف نفسه، علماً أن الكتاب الذي لم يصدر عن دار نشر وإنما عن "قصر النجمة الزهراء"، مكتوب باللغة الإنكليزية، وهو خيار يعطي فكرةً واضحةً عن القرّاء الذين يستهدفهم الكتاب، وهم بالتأكيد من السيّاح. لكن، ألم يكن حرياً أن يُرفَق النص الإنكليزي بترجمة عربية، حتى من باب الاعتراف بأحقية الزائر المحلّي في الاطلاع على المعلم على قدم المساواة مع السائح الأجنبي؟