"المُسَاعِدة": رتابة سرد وبلاغة صمت

04 سبتمبر 2020
جوليا غارنر: الرضوخ للسلطة (ريتش بولك/ Getty)
+ الخط -

 

في فيلمها الأخير "المُساعِدة" (2019)، تحفر الأسترالية كيتي غرين (1984) في بنية المُتخيّل الهوليوودي، بجعل شركات الإنتاج الهوليوودية مادة سينمائية للفحص والنقد، ثم للتخييل، الذي يأتي لاحقاً وفق عناصر مختلفة من المعالجة الموضوعية والجمالية.

تعمل جاين (جوليا غارنر) مُساعدة في إحدى أكبر شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود. لكنّ غرين تُشرّح مكبوتاً جنسياً يسم أماكن كهذه، ولا يعلم أحد ما يحصل فيها، بأسلوبٍ أذكى في تفسير الأحداث، مانحةً إياها أبعاداً تخييلية عبر الرمز والتشفير الحادّ للمَشاهد. هذا يفضحه سلوك الفتاة "المُساعِدة" وارتباكها إزاء مدير الشركة، الذي يستغلّها في أمور عدّة: زيادة ساعات العمل اليومي، ومراقبة أطفاله، وإعداد الطعام، وتنظيم المكتب، وأمور لا علاقة لها بوظيفتها المُقتَصرة على إعداد مسوّدات إنتاج الأفلام، واستقبال بعض الموظفين.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

لكنّ توظيف مُساعِدة جديدة من دون خبرة (نادلة سابقة)، وإقامتها في أكبر فندق في المدينة على حساب الشركة، جعل جاين تُفكّر بصمتٍ في التقدّم بشكوى ضد مديرها إلى مسؤول أعلى رتبة منه، بدعوى استغلال الموظّفة الجديدة والاستهتار بمال الشركة، بعد عثورها على ممتلكاتٍ للموظّفة الجديدة قرب أريكة المدير في مكتبه. لكنّ أملها يخيب بسرعة، وتُصاب بإحباط، لعدم مساعدة المدير المركزي لها في قضية تعتبرها مهمّة لحماية الموظّفة الجديدة، وصون كرامتها من أيّ استغلال، فتنهمك مُجدّداً في عملها اليومي الرتيب.

تكشف كيتي غرين، بشكلٍ غير مباشر، تفاصيل يوميات شركات الإنتاج الهوليوودية، والتحوّل الفظيع الحاصل في إداراتها، ومدى استغلالها بعض النساء. طموح جاين إلى أنْ تُصبح منتجة أميركية مهمّة، تكون أكثر تأثيراً في المهنة، جعلها تصمت وتعود إلى عملها، من دون إثارة القضية أمام الصحافة والقضاء، كي لا تخسر وظيفتها، فالمدير المركزي اعتبر أنّ حساسيتها تجاه الموظّفة الجديدة ارتباكٌ أو حسدٌ أو ضغطٌ نفسيّ، تواجه الموظفين مخافة فقدانهم وظائفهم بوجود خصمٍ جديدٍ معهم في المكتب.

أظهر خطاب الفيلم ومَشاهده عكس هذا، بسردٍ بارد ومناخ كئيب، يُغذّي الصُوَر ويملؤها بألم خفيّ يتبدّى على ملامح جاين ورتابة الحكي وقتامة الصورة، خاصّة أنّ كيتي غرين توقّفت عند طبيعة هذه الرتابة ونمطيّتها، مع تركيزٍ على لعبة الألوان الباهتة، التي تزيد غموض الصورة، وتأثير هذه المكوّنات البصرية على ملامح الشخصية وحياتها اليومية، بإظهار العجز والتعب والارتباك في سلوكها وحركاتها وملامحها الصارمة إزاء جسدها أولاً، قبل الموظّفين الآخرين، الذين لا وجود لهم في يومياتها إلاّ بوصفهم عنصراً يُؤثّث المكتب، الذي يعمل على صوغ الحكاية، وإضفاء غموض كبير على الفيلم.

عاملٌ آخر يُساهم في صنع جماليّات الفيلم: قدرة الصمت على الجهر بحقائق خفيّة في الشركات السينمائية. فالصمت لا يشتغل كمُؤثرٍ فنيّ أو جماليّ فقط، بل يعمل كأداةِ إدانةٍ للواقع الفني الأميركي، بحثاً عن الحقيقة أيّاً تكن نتائجها، وإبرازها للمُشاهد، ولو بشكلٍ غامضٍ، إذْ ربما يُدفع إلى التفكير في ظواهر كهذه، تحدث في تلك الشركات. كما أنّ الصمت يشتغل كمُحركٍ للمَشاهد، ومُساهم في إنتاج صُوَرها وعناصرها الجمالية، مع الشخصيات وعلاقاتها بالفضاء العام للأحداث.

المساهمون