منذ 1979، أطلق المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه مصطلح "الميديولوجيا"، ليبدأ لاحقاً في وضع لبنات مشروع متكامل يدرس كيف تمّر الثقافة وتتأثر بالوسائط التقنية والمؤسساتية التي تحملها. مشروع بدا وقد اكتمل حين أصدر دوبريه في بداية التسعينيات كتابه "درس في الميديولوجيا العامة".
على عكس مفكرين فرنسيين آخرين، لم ينتقل فكر دوبريه بسرعة إلى العالم العربي، فلم تشهد الثقافة العربية تسارعاً في نقل أعماله، كما بقي الاعتماد على نظريات محدوداً على الرغم من تقاطعه مع مجالات بحث عديدة، مثل الفلسفة والسياسة واللسانيات والأدب.
منذ أيام، صدر عن "الدار المتوسطية للنشر" في تونس كتاب بعنوان "الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه: فلسفة الإنسان المبلغ" للباحث التونسي عبد السلام الزبيدي، وهو عمل يشير فيه الناشر، على الغلاف الخلفي، إلى أنه "أول كتاب عربي حول ريجيس دوبريه"، فما الذي يفسّر هذا الغياب؟
يقول الزبيدي في حديث إلى "العربي الجديد": "دوبريه من المفكّرين الأحياء، والميديولوجيا باعتبارها ورشة نقدية أو مبحثاً متعدّد التخصصات ما تزال في طور التشكّل. ومعلوم أنّ الكتابة عن مفكّر غزير الإنتاج وفي مرحلة تأسيسٍ نظري وتطبيقي لحقل معرفي مستجّد مسألة محاطة بمحاذير كبيرة. وبوّابة الدخول الأولى للميديولوجيا كانت من خلال الترجمة. وأوّل كتاب مُترجم في المجال كان "محاضرات في علم الإعلام العام" (ترجمة فؤاد شاهين وجورجيت حدّاد)، علماً وأنّ ترجمة العنوان لم تكن موفّقة في تقديري لأنّ المحاضرات كانت في الميديولوجيا وليست في نظريات الإعلام أو الاتّصال، ودوبريه ذاته يعتبر الإعلام صديقاً موهوماً للميديولوجيا، وهو أحد مواضيع بحثها وليس محدّداً لهويتّها. وثاني ترجمة في المجال الميديولوجي كانت "حياة الصورة وموتها" (ترجمة فؤاد الزاهي).
يتابع: "أمّا البوّابة الثانية فقد كانت تطبيق الميديولوجيا كمنهج لدراسة الأدب العربي أو منزلة الصورة أو وسائط الإبلاغ والنقل مثل المنبر أو المسجد أو وسائل الإعلام والتواصل، وهنا نجد عديد الباحثين الذين اهتموا بهذه القضايا مثل صادق الحمامي وعادل خضر وسعاد العالمي وغيرهم. فالاهتمام بالميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه انطلق بالترجمة ثم بالدراسات التطبيقية، أمّا كتابي فهو أوّل كتاب بالعربية، في ما أعلم، عن الميديولوجيا ذاتها كحقل بحث أو كورشة نقدية كما عرّفها دوبريه ذاته".
وحول تبلور فكرة هذا العمل، يقول الزبيدي: "بدأ المشروع من بحث أكاديمي للحصول على شهادة الماجستير في الفلسفة. وكان اختيار الموضوع (الميديولوجيا لدى ريجيس دوبريه) لدواع ذاتية بسبب تقاطع اشتغالي في مجال الإعلام والاتصال طيلة عقدين مع دراستي للفلسفة، فوجدت في الميديولوجيا إرهاصات لإجابات عميقة عن أسئلة أثارتها تجربتي المهنية وحاولت فهمها بخلفيتي الدراسية والمعرفية".
يضيف: "فهذا المبحث يقدّم تحقيباً للتاريخ عبر وسائط الإبلاغ والنقل للأفكار والعقائد والأساطير والإيديولوجيات، بالإضافة إلى دور الواسطة في تشكيل رؤيتنا للعالم، أي أنّ الواسطة (كتاب أو كنيسة أو وسيلة إعلام) تُفكّر نيابةً عنّا. وشخصية ريجيس دوبريه ذاته كانت أحد دوافعي للاختيار. فدوبريه كان ثائراً ماركسياً مقرّباً من تشي غيفارا وفيدال كاسترو وتحوّل إلى مستشار لدى الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران. دوبريه كان يؤمن بضرورة الاستيلاء على أراضي (بؤرة ثورية) لإحداث التغيير السياسي فغدا منظّراً للاوعي الديني باعتباره الثابت الوحيد في السياسة. دوبريه شخصية متعدّدة يكتب الرواية ويبحث في الراهن السياسي وينبش في تكنولوجيا العقائد والأفكار، ودوبريه ابتكر مبحثاً يمكّننا من مقاربة تاريخنا الإنساني وواقعنا من زاوية مستجدّة، لذلك ولغير ذلك اشتغلت عليه".
أما حول أبرز الأفكار التي يقدّمها العمل، فيقول: "هناك فكرتان أساسيتان عملت على إيضاحهما في الكتاب، الأولى أنّ الميديولوجيا فلسفةٌ، والثانية مركزيّة مفهوم البلاغ والإبلاغ في الميديولوجيا. فدوبريه الذي جعل من الميديولوجيا مبحثاً أو حقلاً أو ورشة نقدية للأفكار وللوسائط التي تنقلها وتبلّغها، نأى بنفسه عن الفلسفة واعتبر نفسه مجرّد عامل حضيرة لديها، ينظر إلى الإصبع -كالأحمق- عندما تشير الفلسفة إلى القمر. ومن خلال بياني لماهية الميديولوجيا وأركانها وبعدها التطبيقي رسمتُ معالم هذه الفلسفة التي تمنحنا أدوات لفهم عالمنا في حقبة المدار المرئي وما يتفرّع عنه من مدار معلوماتي شامل".
يضيف: "أمّا الفكرة الثانية فهي إبراز الخلفية الأنثروبولوجية لفلسفته. فبعد دراسة الإنسان العاقل والمتكلّم والراغب والحاكم والمحكوم حاول دوبريه دراسة الإنسان باعتباره الكائن الوحيد القادر على نقل الثقافة وإبلاغها، إنّه الكائن الوحيد الذي يعيش داخله الميّتون. وللإشارة فإنّ الباحثين السابقين استعملوا مصطلح النقل في حين أنّني استخدمت مصطلح البلاغ وقدّمت مسوّغات ذلك. والبلاغ عند دوبريه جزء من فلسفة الإنسان المبلّغ، وهو عندي مدخل لقراءة النص الأكبر المؤسس لذواتنا العميقة، أي القرآن، باعتباره بلاغاً. وهذا مشروع آمل أن يرى النور في المستقبل".
بعد هذا العمل، كيف يمكن أن ننظر إلى مستقبل انتشار الميديولوجيا كحقل معرفي في العالم العربي؟ يعتبر الزبيدي بأن "الميديولوجيا ارتقت في العالم العربي من اكتشافٍ إلى مبحث أو ورشة نقدية تساعد على الفهم المزدوج لتاريخنا وراهننا. وقد رصدنا نسقاً تصاعدياً لاهتمام الجامعات العربية بها سواء في مقاربتها للصورة أو لوسائط النقل والاتصال والإبلاغ ومحاولة تطبيقها على خصوصياتنا الحضارية. دوبريه كان مختزلاً في العالم العربي في كتابه "نقد العقل السياسي"، ثم جاء الاهتمام بالميديولوجيا وتطبيقاتها على مسائل محدودة، والمأمول اليوم الانفتاح على رؤيته العامة للعالم، وأن يمدّنا بأدوات لإعادة قراءة ذواتنا".