"المنطقة الآمنة" شرقي الفرات: تفاصيل غامضة وارتياح لتجنّب المواجهة

15 اغسطس 2019
كانت الأوضاع تشير إلى توجه المنطقة لصدام تركي كردي(الأناضول)
+ الخط -
لا يزال الغموض يلف الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان التركي والأميركي أخيراً حول "المنطقة الآمنة" في سورية، والذي يبدو أنه جنّب منطقة شرقي الفرات السورية مواجهة مفتوحة على كل الاحتمالات بين "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تدعمها الولايات المتحدة وتسيطر على المنطقة الأهم في سورية، والجيش التركي الساعي إلى تبديد مخاوف أنقرة من إقليم ذي صبغة كردية في شمال شرقي سورية يمكن أن يُشكّل بدعم غربي في المنطقة تعتبره مساساً بأمنها القومي. وجاء الاتفاق بعد مفاوضات بين واشنطن وأنقرة التي حشدت قوات على حدودها الشمالية الشرقية، مهددة باجتياح المنطقة في حال لم تنتهِ المماطلة الأميركية في حسم مصير شرقي الفرات.

وتدل المعطيات على أن الاتفاق في طريقه للتنفيذ، إذ تحدثت وسائل إعلام تركية عن وصول 90 جندياً أميركياً، يوم الإثنين، إلى ولاية شانلي أورفة، جنوب البلاد، على الحدود مع سورية، في إطار التحضيرات لإنشاء مركز عمليات مشتركة بهدف إنشاء "المنطقة الآمنة" في شرق الفرات. وذكرت وكالة "الأناضول" أن الوفد الأميركي يعمل تحت إشراف القوات التركية بقيادة فوج الحدود الثالث في قضاء أقجة قلعة الحدودي مع سورية، لافتة إلى أن الوفد أجرى جولة تفقدية على الحدود. وكشفت مصادر تركية مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن مقر غرفة العمليات المشتركة سيكون على الأغلب وفق ما اتُفق حتى الآن في ولاية شانلي أورفة الحدودية مع سورية، على أن يبدأ عمل المركز خلال أسبوعين من الآن، في مطلع سبتمبر/ أيلول المقبل، وأن هذا الالتزام نابع من أن الجانب الأميركي يأخذ التهديدات التركية بالعمل العسكري أحادي الجانب على محمل الجد. ولفتت المصادر إلى أن الجانب الأميركي قدّم طرحاً للأتراك، استطاع من خلاله إقناع أنقرة بأفكاره لـ"المنطقة الآمنة"، وهو يحاول استغلال ذلك وتطبيقه على الأرض، على مبدأ منح بعض المكاسب للجانب التركي، والانفراد لاحقاً باستكمال المخططات الخاصة به في المنطقة.

وكان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار قد قال في تصريحات تلفزيونية، الإثنين، إن مركز العمليات المشتركة سيتم افتتاحه قريباً، مبيناً أن تركيا "أكدت للجانب الأميركي ضرورة أن يكون عمق المنطقة الآمنة ما بين 30 و40 كيلومتراً"، لافتاً إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب طرح هذه المسافة خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان.
من جهتها، قالت صحيفة "خبر تورك"، قبل أيام، إنّ تركيا بقيت خلال المفاوضات مصرّة على منطقة آمنة بطول 460 كيلومتراً وبعمق 32 كيلومتراً، ولكنها تخلّت عن الإصرار المرتبط بالتنفيذ الفوري، والاحتفاظ بهذا المطلب إلى مرحلة لاحقة، في حين أن الجانب الأميركي كان مرناً بعرضه الذي يتضمن مسافة 140 كيلومتراً بعمق 3 إلى 7 كيلومترات، وكان هناك حرص على حصول تفاهم، ولهذا السبب تقرّر إنشاء مركز عمليات مشتركة.

وأشاع التفاهم التركي الأميركي حول "ممر السلام" في شمال شرقي سورية، جواً من التفاؤل المشوب بالحذر في المنطقة التي كادت أن تصل إلى حافة الصدام العسكري المباشر بين الجيش التركي و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تمثّل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي.
ومن الواضح أن كل طرف فاعل في منطقة شرقي نهر الفرات يروّج إعلامياً إلى أنه خرج رابحاً نتيجة الاتفاق، الذي يبدو أنه جنّب المنطقة في المدى المنظور على الأقل مواجهة عسكرية كانت مفتوحة على كل الاحتمالات في حال اندلاعها.

وأكد بسام إسحق، عضو الهيئة الرئاسية، والرئيس المشترك لممثلية "مسد" في واشنطن، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الطرفين التركي والأميركي "اتفقا على تسيير دوريات مشتركة متحركة أميركية تركية بعمق خمسة كيلومترات داخل الأراضي السورية"، مشيراً إلى أن الاتفاق ينصّ على سحب أسلحة قوات "قسد" الثقيلة من المنطقة الحدودية بعمق 15 كيلومتراً، مؤكداً أن "المنطقة الآمنة لا تشمل المدن" في منطقة شرقي الفرات، مضيفاً: "تبقى الإدارات في المدن كما هي".
وأوضح إسحق أن الاتفاق لا يتضمّن دخول فصائل تابعة للمعارضة السورية مرتبطة بالجيش التركي فـ"الولايات المتحدة لن تقبل هذا"، مضيفاً: "يدخل مدنيون فقط من أهل المنطقة الأصليين، كما سيُسمح لبعض المدنيين السوريين من اللاجئين في تركيا بالدخول إلى مناطق في شمال شرقي البلاد سيتم تجهيزها لهم".

من جهته، أشار رياض درار، وهو رئيس "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، والذي يُعدّ بمثابة الذراع السياسي لـ"قسد"، في منشور له على "فيسبوك"، الثلاثاء، إلى أن الاتفاق بين تركيا وأميركا حول شرقي الفرات "نزع فتيل التوتر في إطار التسوية في حدها الأدنى"، معرباً عن اعتقاده بأن الاتفاق "أكد أن قوات سورية الديمقراطية قوة تلقى الاعتراف بها، وأن نهجها السياسي لا يستهان به ولا يمكن تجاهله، وأن دورها في رسم مسارات المنطقة قادم بلا تردد". ورأى درار "أن أميركا يهمها التوصل إلى اتفاق"، مضيفاً: "هالها (الولايات المتحدة) هذا التقدّم والانجرار التركي للسقوط في أحضان روسيا، والانصياع لمساراتها، وشراؤها للسلاح الروسي مخالفة بذلك موقفاً أميركياً من مسألة التعامل مع الأسلحة الروسية".


أما القيادي في الجيش السوري الحر، مصطفى سيجري، فقال في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "لا يوجد جديد حول المنطقة الآمنة في شرقي الفرات بانتظار إنشاء غرفة العمليات الأميركية التركية". ولكن سيجري جزم أن فصائل من الجيش الحر ستدخل المنطقة إلى جانب الجيش التركي. وكان سيجري قد أكد منذ أيام، لـ"العربي الجديد"، أن "وحدات منضبطة ومدربة على مستوى عالٍ من الجيش السوري الحر ستدخل لدعم الاستقرار وحماية المدنيين ومنع ارتكاب أي تجاوزات"، وأن "‏المنطقة الآمنة ستطبّق بحسب الرؤية التركية"، وفق قوله.

وتعوّل قوات "قسد" على الجانب الأميركي لتجنيبها مواجهة مع الجيش التركي قد تنتهي بتحييد هذه القوات التي تشكّلت أواخر عام 2015 لمحاربة تنظيم "داعش"، وبالفعل استطاعت بمساعدة التحالف الدولي القضاء على التنظيم ولكن بعد عمليات إبادة طاولت مدنيين في الرقة ودير الزور. وتسيطر هذه القوات اليوم على معظم منطقة شرق الفرات التي تعدّ "سورية المفيدة" بثرواتها المائية والزراعية والنفطية، إذ تسيطر على معظم أنحاء محافظة الرقة، وجزء كبير من ريف دير الزور الشرقي، شمال نهر الفرات، إلى جانب سيطرتها على معظم أنحاء محافظة الحسكة، أقصى شمال شرقي سورية، باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة، وأجزاء من ريف المحافظة. كذلك تسيطر على مدينة منبج في غربي نهر الفرات، وأجزاء واسعة من ريف حلب الشمالي الشرقي، شرق نهر الفرات، وسلسلة قرى جنوب نهر الفرات تمتد من مدينة الطبقة غرباً وحتى مدينة الرقة شرقاً، على طول أكثر من 60 كيلومتراً. وتضم منطقة شرقي الفرات العديد من المدن الهامة التي يريد الطرف السوري الكردي بقاء "قوات سورية الديمقراطية" فيها، خصوصاً تلك التي تضم أكراداً سوريين، مثل عين العرب (كوباني) في ريف حلب الشمالي الشرقي، والقامشلي في ريف الحسكة التي تعتبر المدينة الأهم لجهة الحضور الكردي.

وعلى الرغم من سيطرة الوحدات الكردية على شرقي نهر الفرات، إلا أن الأكراد يُعتبرون أقلية في المنطقة ذات الغالبية العربية، إذ يقتصر الوجود الكردي في عين العرب ومحيطها والقامشلي ومحيطها مع بعض قرى في ريف الرقة الشمالي سكانها من السوريين الأكراد. وهاجر عدد كبير من أكراد سورية إلى بلدان أوروبية منذ انطلاق الثورة السورية، كما أن العدد الأكبر من أهالي منطقة عين العرب لاجئون في الأراضي التركية تريد أنقرة عودتهم إلى مناطقهم مع بدء تنفيذ الاتفاق.

وفي السياق، ذكرت مصادر إعلامية معارضة أن الوحدات الكردية تحصّن مواقعها في ريف الحسكة غير البعيد عن الحدود السورية التركية، من خلال مواصلة حفر الأنفاق في محيط مدينة رأس العين، مشيرة في الوقت نفسه إلى أن الجانب التركي أبلغ مجلساً محلياً للمدينة شُكّل أخيراً في تركيا أن عليه الاستعداد لإدارة المدينة الحدودية التي تُعتبر اليوم من معاقل الوحدات الكردية. وأكدت مصادر إعلامية معارضة أن تطبيق "المنطقة الآمنة" بعمق 15 كيلومتراً لن يغيّر من واقع الحال شيئاً كون الوحدات الكردية لا تنشر سلاحها الثقيل على الحدود السورية التركية، بل هي موجودة على مسافة 30 كيلومتراً من الحدود السورية التركية في منطقة "جبل عبد العزيز"، وفي محيط جبل الحمة في ريف بلدة تل تمر.

وفي حال تطبيق الاتفاق، سيكون على "قسد" الانسحاب من أهم معاقلها في شمال شرقي سورية، بدءاً من مدينة عين العرب (كوباني) ذات الغالبية الكردية غرباً، مروراً بمدينة تل أبيض ذات الغالبية العربية في ريف الرقة الشمالي، ورأس العين ذات الغالبية العربية في ريف الحسكة، وانتهاء بمدينة القامشلي التي يشكّل الأكراد غالبية سكانها شرقاً، ما يعني أن هذه القوات ستصبح عاجزة عن التأثير على طول الحدود السورية التركية وبعمق عدة كيلومترات.

من جهته، يحاول النظام أن يكون جزءاً من الترتيبات في منطقة شرقي الفرات، لا سيما أنه لا يزال له وجود عسكري وإداري في مدينتي الحسكة والقامشلي. وذكرت مصادر إعلامية معارضة أن نائب وزير الدفاع في حكومة النظام اللواء صالح علي، زار الإثنين "الفوج 154" في "تل طرطب"، جنوب مدينة القامشلي، و"الفوج 123" في "جبل كوكب"، شرق مدينة الحسكة. ولا تكتسب الزيارة أي أهمية ما خلا الجانب الإعلامي، فالنظام السوري بات عملياً خارج "اللعبة" في منطقة شرقي نهر الفرات التي تعد اليوم منطقة نفوذ أميركي، ومن ثم لن يكون النظام جزءاً من أي ترتيبات في المدى المنظور.

المساهمون