"اللعبة الإنكليزية": التاريخ في وضعية تسلُّل

31 يوليو 2020
الأثرياء ناظمو قواعد لعبةٍ تمارسها الطبقة العاملة (نتفليكس)
+ الخط -

احتفى الناقد الأدبي الإنكليزي، تيري إيغلتون، بكأس العالم لكرة القدم عام 2010 بمقالةٍ في صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، بذل فيها جهداً حقيقياً لإبراز عوامل الجذب في هذه الرياضة داخل وخارج الملعب. إلا أن ذاك الاحتفاء الذي لم يغفل فيه إيغلتون قوة اللاعبين المخلوطة برشاقة الراقص، وبناء اللعبة لتاريخٍ وثقافة وطقوس لمشجعيها، لم يكن في الواقع سوى للتحذير من استخدامها كوسيلة تخدير جمعية تسد كل الحاجات والمشاعر التي نمنع من إبدائها أو التمتع بها أو تسخيرها لأجل مصالحنا.

وفي الحقيقة، ليس إيغلتون الوحيد الذي تنبه إلى حجم اللعبة الجميلة اليوم، وتداخلها بمختلف جوانب حياتنا، إذ بات من الطبيعي اليوم العثور على عدة كتب تنظر إلى كرة القدم بعين السياسة وتداخل هذين الحقلين، أو بوصفها مفسراً لحكاية العولمة وغير ذلك، وربما لكل الأسباب الصحيحة.

عند هذا المناخ المشجع لتفحص أهمية كرة القدم اليوم، قدّمت منصة "نتفليكس" مسلسل "اللعبة الإنكليزية" The English Game الذي يعود بالزمن إلى القرن التاسع عشر، ويتفحص أصول اللعبة والظهور الأول لمفهوم اللاعب المحترف، الممتهن لكرة القدم بوصفها عملاً وليست هواية غير مدفوعة الأجر. لا شك في أن الفكرة ستبدو مغرية لأي مشاهد مهتم يقرأ ملخص العمل قبل متابعته، بسبب الاحتمالات الواسعة التي يمكن أن يقدمها المسلسل حين نضع نقطة كهذه، ونترك الأخرى في عصر اليوم والصفقات والأجور الخيالية التي لم يكبح جماحها شيء سوى المطب الاقتصادي بسبب جائحة فيروس كورونا الجديد.

إلا أن المسلسل، في غالبه، يخيب هذه الآمال ويقدم شيئاً آخر. لا بد أن يمر الحديث عن عملٍ من هذا النوع بالتاريخ بشكلٍ ضروري، فما يحاول "اللعبة الإنكليزية" The English Game تقديمه هو معالجة درامية لوقائع تاريخية، من مباريات جرت حقاً ولاعبين وأشخاص حقيقيين كفيرغوس سوتر، اللاعب المحترف الأول وصديقه جيمي لاف، وغريمه الأزلي - كما يصوره المسلسل- آرثر كينيرد وزوجته ألما، وغيرهم.

يخضع كل هؤلاء لتحريفات متفاوتة في حجمها وأهميتها خدمةً لصناعة الدراما، وهو ما سنتوقف عنده. وقبل أن نخوض هذا السجال، علينا أن نقول إن تحرّي الدقة التاريخية بالمعنى الحرفي ليس شغلنا الشاغل هنا، ولن يكون سؤالنا عن اقتراب أحداث المسلسل من الحقيقة، لأن صناعة دراما التاريخية تجيز بعض التحريف، بل عن جدوى التحريف وما نوع الدراما التي ينتجها.

ولنبدأ من شخصيتي المسلسل الرئيسيتين؛ فيرغوس سوتر وآرثر كينيرد. تدور كل أحداث المسلسل حول هذه الشخصيتين، وترسم التضاد بينهما منذ البداية، فالأول لاعب جوال من الطبقة العاملة، ينضم مع صديقه المقرب جيمي لاف إلى "نادي داروين" بعد حصولهما على أجرٍ لقاء ذلك. إن سوتر رغم انتمائه هذا، لا يمكن عدّه مع تلك الكتلة المتشابهة التي ينتمي إليها، وعلينا أن نتابع بألم الدليل على ذلك طوال المسلسل. أما البطل المضاد آرثر، فهو ابن مصرفي ثري يلعب الرياضة النبيلة كهواية يبالغ في أخذها على محمل الجد، كما يعتقد والده، ويتمتع هو الآخر بصفات تجعله لاحقاً ينفر من أبناء جلدته هو أيضاً، بمساعدة زوجته التي تلعب طوال المسلسل دور المحرض الأخلاقي لزوجها، ليُفشِل في النهاية مخطط أصدقائه لاستبعاد فريق سوتر من كأس الاتحاد الإنكليزي بسبب تقاضيه أجراً، ولكي ينتصر الفريق الأفضل وتعم العدالة كوكب الأرض.

إن تحريك أحداث المسلسل والصراع عبر شخصيتين متناقضتين بهذا الشكل لم يعد تقليدياً وحسب، بل يضرب بعرض الحائط الجملة التي يُفتَتَح بها المسلسل عن كون الأثرياء ناظمي قواعد لعبةٍ تمارسها الطبقة العاملة التي توحي بطريقة مختلفة لسرد هذه لحكاية من شأنها تفحص ما تحاول أن تقدمه عن الصراع الطبقي حول اللعبة الجميلة. إن اعتماد طريقة الأمير والفقير هذه في رسم الصراع الدرامي يقدم لنا العالم وقد تمركز حول هاتين الشخصيتين بطريقة ينقصها الوضوح، فتبدو بذلك شخصيات الطبقة العليا كاريكتيرات وأنماطاً عمّا نعرفه عنها، وتبدو أمامها شخصيات الطبقة العاملة كائنات مجبولة من البساطة والثمالة في حانة القرية بشكلٍ رومانسي مبسّط.

وتصبح بذلك أفعال معظم الشخصيات ردود أفعال حول صراع الشخصيتين (وكأن كثيراً من الأمور ليست على المحك) كما يحدث ذلك حين تبدأ الشخصيات من الجهتين بالتفاعل مع سوتر البارع والحديث عنه واتخاذ قرارات بسببه، أو كما يفعل في أول مباراة يلعبها محولاً فريقاً من المبتدئين إلى طبق فاكهة للعين بلمح البصر. وبعيداً عن تغيير نتائج بضع مباريات جرت ليربح بطلنا نهائي كأس إنكلترا في الحلقة الأخيرة من المسلسل (كما تدرج العادة في مسلسلات الأطفال)، فإن أكبر تغيير مميت للتاريخ لا يكمن في الملعب بل خارجه. فبعد استقرار سوتر مع فريق "داروين" يقدم له نادي بلاكبرن عرضاً مالياً أضخم، وعني بذلك الانتقال من ثلاثة جنيهات أسبوعياً إلى ستّة. وعند هذه اللحظة، يرى جوليان فيلوز، كاتب المسلسل، فرصةً ذهبية ليغير بعض الحقائق ويحول والد فيرغوس إلى رجلٍ عنيف وسكير يعتدي على زوجته وبناته. لا شيء يثبت صحة هذا الادعاء تاريخياً، ولا فائدة منه سوى إضافة كليشيه درامي آخر، عن البطل أمام المأزق الأخلاقي. كما أن التذرع بالوالد السكير، يُفشِل، نظرياً، ما يدعي المسلسل الدفاع عنه وهو حق العمال في ممارسة عملٍ مأجور، ونحن في هذه الحالة لسنا أمام لاعبٍ معاصر يترك نادياً من أجل بضعة ملايين أخرى، بل أمام رجلٍ يبحث حرفياً عما يسدّ رمقه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

يتلاعب فيلوز بالتاريخ أيضاً في ما يخص علاقة لوف وسوتر، ويصورهما كلاعبين صديقين ينتقلان معاً من نادٍ إلى آخر، ولا يمكن لأي قوة على وجه الأرض أن تفصلهما، مع أن الاثنين في الحقيقة لم ينتقلا دائماً بهذا الشكل، وليس هذا في الواقع سوى شكلٍ قديمٍ لتصوير الصداقة على الشاشة، خصوصاً حين نحلّل دور لوف كالصديق النقيض، الأكثر بساطةً ولطافة بجانب صديقه الحاد والذكي الذي يبدو أن اصطحابه له في كل مكانٍ ليس لشيء سوى إبراز نفسه عبر التضاد. يسبب هذا الخيار في المعالجة الدرامية، بالإضافة إلى طريقة تصوير لعب كرة القدم، ضعفاً في معالجة موضوع المسلسل الأساسي الذي يقوم عليه، ويترك المشاهد، إذن، أمام أجزاء منفصلة تجذبه بعضها وتنفره أخرى. وبينما لا ينجح المسلسل في الإحاطة بالقضية داخل الملعب بوصفه المكان المخصص للرجال، ينجح أحياناً في رسم بعض القصص الفرعية خارجه، كالحبكة الفرعية لألما.

ومع استثناء بعض الدهشة التي تصيب المشاهد كلّما احتجت شخصية من شخصيات المسلسل على وجود لاعب كرة قدم يتقاضى أجراً، وهو ما يمكن اعتباره أبرز إطلالةٍ على تاريخ هذه الرياضة، بالإضافة إلى معرفتنا بأن رجال ذاك العصر كانوا يتهمّون النساء أيضاً بعدم فهم الرياضة (وهو تقليد ما زال مستمراً حتى اليوم)، فإن المسلسل يفشل في الاستفادة من الفرصة الهائلة التي كانت أمام صانعيه، خصوصاً أنه عُرِض أثناء توقف لعب كرة القدم في الدوريات الكبرى. ولذا، لا داعي للقلق حين نعرف أن المسلسل لن يُتبَع بجزءٍ ثانٍ، وأننا من الممكن أن نواظب على متابعة كرة القدم الحقيقية بالدراما التي تنتجها كل مباراة، وبتنا على تماسٍ أكبر معها بسبب الملاعب شبه الخاوية حتى اللحظة.

المساهمون