"الفلسفة عبر الرسومات البيانية": أبجدية الوساطة المعرفية

30 يوليو 2019
جون واشنطن/ الولايات المتحدة
+ الخط -

للوصول إلى أهم نظريات الفلسفة، من العسير على عامة القرّاء الذهاب إلى النصوص الأصلية التي وردت فيها، لأنها في الغالب قد كُتبت بأسلوبٍ عالمٍ يتحدّى الاستعمالات المتداولة للغة، وبالتالي تكون عسيرة على الفهم، حتى أن كتباً فلسفية كثيرة وصفت بأنها "شهيرة دون أن يقرأها أحد" على ما في العبارة من طرافة وبحث عن المفارقة، ومن ذلك كتاب "السياسة" لأرسطو أو "فينومينولوجيا الروح" لهيغل. في هذا الإطار يمكن أن نصنّف أمهات الكتب الفلسفية مثل "التأملات الميتافيزيقية" لرينيه ديكارت، و"نقد العقل المحض" لإمانويل كانط، و"جينيالوجيا الأخلاق" لـ فريديرك نيتشه.

إلى هذه الكتب التي تبدو عسيرة على القارئ، تتجه الباحثة الفرنسية آن ليميتيير في كتابها الصادر مؤخراً عن منشورات "إليبس" بعنوان "عشر كلاسيكيات فلسفية من خلال الرسومات البيانية"، وهو عمل يأتي بعد إصدارها عملاً شبيهاً في عام 2017 بعنوان "الفلسفة من خلال الرسومات البيانية".

فكرة العملين يعبّر عنها عنواناهما، إذ تعيد ليميتيير صياغة العمل ضمن لوحة بيانية، تُظهر من خلالها الإشكالية التي ينطلق منها الفيلسوف، ثم تعيد تركيب المسالك التي يأخذها في بحثه، وتبيّن في الأثناء المفاهيمَ التي يعتمدها الفيلسوف، أو بالأحرى التي يخترعها أو يصوغها.

يندرج هذا التناول ضمن ما يُعرف بـ"الوساطة المعرفية"، وهو مجال نشيط في السنوات الأخيرة يحاول المساهمون فيه تبسيط الفلسفة، ومختلف المعارف والمجالات العلمية، في سبيل إخراجها من نخوبيّتها وتقديمها سهلة ميسَّرة للمتابع العادي. وفي ذلك تتنوّع الوسائل، فإذا كانت ليميتيير قد اختارت الرسومات البيانية، مستندة لتقاليد العلوم الطبيعية أساساً، فإن البعض الآخر قد استند إلى السرد الفكري لإعادة صياغة الإشكاليات الفلسفية، كما اتجه بعضهم إلى فنون مثل الكاريكاتير، واعتمد البعض الآخر على التكنولوجيات الحديثة فوظّفوا فنون التصميم والإنفوغراف، حتى أننا اليوم بتنا نقع على عشرات الفيديوهات على اليوتيوب تتحدّث على أفكار ماركس وفوكو بلغة بسيطة تتوجّه إلى من لا يملكون مؤهلات فلسفية، في ما عدا الفضول المعرفي ربما.

رغم ذلك، لا يمكننا اعتبار مشروع ليميتيير بسيطاً، إذ إنه ينطلق من تمكّن من مفردات الفلسفة، وهي التي تشير في مقدّمة عملها إلى أنها لا تبتغي أن تحوّل وجهة القارئ عن النصوص الأصلية، وإنما تحاول تقديم صورة عامة تساعده - لو أراد - على التنزّه بمتعة داخل متاهات هذا العمل الفلسفي أو ذاك. تقول: "يظلّ الرسم البياني اختصاراً، وبالتالي فهو لا يطمح إلى تعويض القراءة، بل هو يبتغي أن يكون رفيقاً لها". فإذا اعتبرنا مشروع ليميتيير اختزالياً أو تبسيطياً، فهو أقرب إلى "اختزال متنوِّر".

تُسند الباحثة الفرنسية مقاربتها إلى تطوّرات في العلوم الإنسانية، ففي "زمن كلاسيكيات المعرفة" اعتُبرت اللغة في شكلها النصّي الأرضية الوحيدة لتمرير الأفكار، وبالتالي لا نقرأ فيلسوفاً إلا من خلال مؤلفاته أو عبر دراسات كُتبت عنه. لكن صعود مجال معرفي حديث مثل السيميولوجيا قد أتاح أن نعرف أن تمرير الأفكار لا يقتصر على الكلمات كمحامل وإنما على مجمل العلامات، والتي قد تكون كلمات أيضاً ولكنها يمكن أن تكون صوراً ورسوماب بيانية وأي شيء آخر قابل لنقل المعنى.

اختارت المؤلفة عشرة كتب تمسح تاريخ الفلسفة من "جمهورية" أفلاطون إلى كتاب "المراقبة والمعاقبة" لـ ميشيل فوكو، مروراً بـ"علم الأخلاق" لـ سبينوزا و"العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو وغيرها من الأعمال. لعلّ القدرة على إخضاع هذه الأعمال الضخمة لصورة بيانية من صفحة واحدة تعيدنا إلى حلم فلسفي قديم وهو أن يكون كل مواطن فيلسوفاً، أو على الأقل ممتلكاً الحدّ الأدنى من المعرفة الفلسفية التي هي بالنسبة لكثيرين الأساس الأكثر صلابة لمواطنة فاعلة.

المساهمون