19 سبتمبر 2022
"العرب والكرد".. جدلية التعايش والمصالح
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمراً مهماً وساخناً ومثيراً في الدوحة ثلاثة أيام، بدءاً من 29 أبريل/ نيسان2017، "العرب والكرد: المصالح والمخاوف والمشتركات". عولجت في أوراقه جملة من الطروحات السياسية، وأثيرت في حواراته وجهات نظر متعدّدة، ومتضاربة في جوانب ومتهاودة في أخرى، وفي مجالات تاريخية وسياسية وجغرافية وسوسيولوجية واقتصادية، وعالجها باحثون متخصّصون ومؤرخون عرب وكرد، وبالذات من العراق وسورية. ويعدّ المؤتمر أوسع تظاهرة أكاديمية في موضوع العلاقات العربية – الكردية، يجتمع فيها باحثون وأكاديميون من الطرفين لمناقشة قضايا إشكاليّة راهنة، تفرض نفسها على الأجندات البحثية العربية والكرديّة معًا، وتتنوع مواضيعها بتنوع التخصصات العلميّة والأكاديمية. وبقدر ما كانت جلسات اليوم الأول ساخنة ومتشنجةً، وصاحبتها ردودُ فعل مباشرة، غدت في اليوم الثاني أقلّ تصلباً، ثم بردت وغدت أكثر ليونةً ورشاقةً في اليوم الثالث ما يدلّ على أن مبدأ الحوار والعقل، إذا ساد بين الجانبين، يزيل نسبةً عالية من التباينات والتضادّات، بل ويقّرب المسافات الطويلة.. وهنا، ينبغي الإشادة بالدور الذي يقوم به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إثارة موضوعات استراتيجية وحيوية، وهو يتبنى فلسفة ثورة الإشكاليات المعرفية، وتطبيقها على الواقع بكل نتائجها واستخلاصاتها.
من الموصل إلى العراق وسورية
بدا واضحاً أن جلَّ الكرد العراقيين يعودون، في التقسيم الإداري العثماني إلى ولاية الموصل، وتبين أن التعايش الاجتماعي بين العرب والكرد فيها كان قوياً. وقد كانت هذه الولاية تضمّ كلّ كرد العراق إلى جانب الأطياف الاجتماعية الأخرى. وكان هذا التعايش التاريخي بين الطرفين يمتد أنثروبولوجيًّا إلى أزمنةٍ قديمة، بل إنّه يرجع إلى مشروع إدريس البدليسي في تثبيت أركان الإدارة الأهلية في بلاد الجزيرة وولاية الموصل، على عهد سليم الأول في الفترة 1512-1520. وقد شارك الأكراد في الحياة العراقية، دولةً ومجتمعاً، وخصوصًا في المشتركات السياسية على مستوى الأحزاب أو التمثيل النيابي، وخصوصاً مشتركات "العرب والكرد في العهد الملكي العراقي، إذ بدت محاولةً ناجحةً في بناء الهوية الوطنية العراقية الجامعة"، فمن الثابت تاريخياً أنّ المنطقة الكردية في العراق، وخصوصاً المحافظات الكردية الثلاث، مضافًا إليها قطاعات من محافظات أخرى، كانت على الدوام مناطق تدين بتابعيتها وولائها إلى مركزية بغداد. وعليه، كان سكان هذه المناطق عراقيين على الدوام، مهما كانت التسمية التي تُطلق على هذه الرقعة الجغرافية. وثمّة حقائق لابد من الاعتراف بها، إذ أن العلاقات بين الطرفين كانت، اجتماعياً واقتصادياً، أقوى منها سياسياً وثقافياً، ولا يمكن أبداً، لا اليوم ولا في المستقبل، أن يستغني الكرد عن العرب في كلّ من العراق وسورية، فإنّ ما يجمعهم هو أكثر بكثير مما يفرّقهم، وأن مشتركاتهم ومصالحهم معاً، في كلّ من البلدين، هي أقوى بكثير مما هو عليه الحال في تركيا وإيران.
الشراكة تسبق القطيعة
وثمّة صوتٌ انبعث في واحدة من جلسات المؤتمر يقول إن كرد العراق، حتى إن انفصلوا عن عرب العراق وتركمانه، قريباً أو بعيداً، فإن مصير الجغرافيا هو الذي سيحدّد طبيعة علاقتهم مع بعضهم، فالمصالح التي تجمعهم أقوى بكثيرٍ من الكراهية والأحقاد التي تفرّقهم، والتي يتلاعب الآخرون من خلالها عاطفياً (!). ولقد نوقشت جملة كبيرة من المسائل التاريخية والعالقة من المشاركين، وكثيراً ما يصل المتحاورون إلى عدة نقاط إيجابية بتقاطعاتهم بعضهم الآخر مع بقاء العديد من المفترقات بتحميل بعض الموضوعات أكثر من طاقتها.. ومما يدعو إلى الطمأنينة أن الكرد استجابوا لمثل هذا "المشروع" الحواري والجدلي الرائع، إذ ربما يعقد اللقاء الثاني في كردستان العراق لمواصلة مداولاتٍ من نوع آخر. وقد بدا واضحاً أن تاريخ العلاقات بين الطرفين كانت التعايشات فيه قد أنتجت مشتركاتٍ لا حصر لها في المجتمع، سواء من المصاهرات الأسرية، أو الحلقات الدراسية، أو التكايا الصوفية، أو الأسواق والتبادلات السلعية، وصولاً إلى العادات والتقاليد المشتركة، ولكن عقم السياسات التي مورست في القرن العشرين بالذات قد سببّت افتراقات وتمرّداتٍ واشتعال ثوراتٍ على السلطات التي لم تحسن التعامل بالحكمة والعقل أولاً، في حين كان الكرد لا يكتفون بما يأخذون، بل سعوا إلى تطبيق مبدأ "خذ وطالب". وقد بدأت جذور المشكلة بعد وقوع بلاد الشام والعراق تحت نظام الانتداب. وفي حين خرجت تركيا من التحول بمنزلة الدولة القومية الوحيدة المستقلة، وترتّب على ذلك أنْ كان العرب والأكراد والأرمن أكبرَ الخاسرين.
من المسؤول؟
وهنا، برز صوتٌ عربي يقول للكرد: خرائطنا لم يكن العرب مسؤولين عن وضع خطوطها، فالعرب والكرد والتركمان والأرمن، وكل المسيحيين، وبقية الأطياف الاجتماعية قد ارتهنوا للإرادة الدولية إثر الحرب العالمية الأولى، وإن الهوية الكردية وجدت نفسها تتحرّك بحرية في العراق وسورية ومصر أكثر بكثير مما كان، ولم يزل، حالها في كل من إيران وتركيا. ويأتي صوت كردي مبرزاً غياب موقف عربي موحد من القضية الكردية، على الرغم من أهميتها، ولم تحصل على التوجيه المناسب لها، فيما يصبّ في مصلحة الوحدة والديمقراطية في العراق، ولم تذكر أو يذكر "الكرد" في أيٍّ من الشؤون العربية خلال السنوات الفائتة كلها، مع أهمية هذه القضية وتعلقها، بصورةٍ ما بأمن الشرق الأوسط. أجاب مشاركٌ عربيٌّ بأن علاقات الكرد القديمة بإسرائيل وحتى يومنا هذا، كان ذلك سبباً جوهرياً في وضع علامة استفهام كبيرة، رد عليه مشارك كردي: من أجل قضيتنا العادلة، نطرق كلّ أبواب العالم.
وأعتبر أن غياب سياساتٍ متناسقة ومتوافقة داخل النظام الإقليمي العربي تجاه القضايا الداخلية والخارجية كان أحد الأسباب التي أثرت على شكل التأثير في العلاقات العربية الكردية وقلته. ويعتقد بعضهم أن العرب والكرد قد تعرّضا معاً إلى حالةٍ من الدمج والانصهار الايديولوجي، خلال العقود الأخيرة، وفي مختلف العهود. ويرى بعض العرب أن للكرد كل الحق للمطالبة بـ "حق تقرير المصير"، ولكن المسألة لا تعود إلى العرب في العراق أو سورية، وافقوا أم لم يوافقوا، بل إلى إيران وتركيا في قبول هذا "الحق" واشتراطات هذا المبدأ ومخاطره.. لو أرادت الولايات المتحدة فعل ذلك لمنحت الكرد استقلالهم السياسي منذ 1991 في العراق، واعترفت به، وجعلت العالم كله يعترف سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً. ولكن، يبدو أن ثمة حساباتٍ أخرى لدى القوى الكبرى! فضلاً عن أنه ليست لدى الكرد توجّهات موحّدة في تشكيل أمّةٍ لها هويتها القومية، مع افتراقاتٍ لغوية وثقافية واجتماعية وسياسية مع افتراقات الكرد على قيادة موحدة. وعليه، فقد استُخدموا "أوراق ضغط" من قوى عدة دولية وإقليمية على نظم سياسية، وعلى حساب أهدافهم.. وإذا كان الكرد الأوائل قد قبلوا أن يكونوا وطنيين عراقيين أو سوريين، فإن الكرد من الجيل الجديد لا يقبلون أبداً الانضواء في دواخل "أوطانٍ" يعتبرها مزيفة (كذا)، ولا ينتمي لها أبداً! ولكنه جيلٌ ليس في استطاعته فهم مشكلته الحقيقية، فهو يعيش قلقاً وطنياً وقومياً ومستقبلياً، فهو لا يعرف أين تمتد حدوده مع الآخر في أراضٍ سمّاها "أراضي متنازع عليها". والمشكلة فيها أنه لم يتوارثها منذ القدم كيانات قائمة بذاتها ولها حدودها، بل هي أراضٍ مختلطة السكان من أراضي ولاية الموصل العثمانية. ويؤكّد أحدهم، وهو يجيب على العرب، قائلاً: أيّ نظرة إلى المسألة الكردية على أنّها مجرّد قضية إدارية أو نزاع على النفط، مع إغفال الأهمية الرمزية والعاطفية للأرض، بوصفها وطنًا، تبسيط للأمور.
مفاهيم ينبغي معرفتها
يعكس تحليل أحد الباحثين وجهات نظر سياسيّة ومستقبليّة، إذ يطرح أحد الأحزاب الكردية "الكونفيدرالية" علاجاً واقياً بعد فشل كلّ من تجربتي الحكم الذاتي واللامركزية والفيدرالية.. كي يتم تحديد العلاقة بين كردستان والعراق مثلاً كونفيدرالياً، أو انبثاق "كونفيدراليات كردية" في سورية والعراق وإيران وتركيا، لكي يوحّدها اتحاد كونفيدرالي. هنا، ينبغي الإجابة على مثل هذا "الطرح"، ذلك أن هؤلاء الباحثين والسياسين الكرد لم يدركوا حتى اليوم ما تعنيه المفاهيم والمصطلحات، حتى يتم استخدامها بهذا الشكل، فالفيدرالية اتحاد كيان إقليمي، والكونفيدرالية تعني اتحاد كيان دولي باتحاد دولٍ معترف بها رسمياً ودولياً.. وبحسب الخطاب الكردي، لا تعني الفيدرالية تقاسم الإدارة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقط، بل تعني تقاسم السيادة والسلطات أيضاً، فهم يبرّرون ما يقومون به بأن لفيدراليتهم خصوصية، وعلى العراقيين أن يتقبلوا هذه "الخصوصية".
دعوة الكرد إلى الفيدرالية مبنيةٌ حصراً على أساس خصوصيتهم القومية- الإثنية، أي أنهم يريدون أن يتولوا إدارة المناطق التي يعتقدون أنهم يشكلون فيها تاريخياً أغلبية سكانية. وتعود مطالبة الكرد بدولة فيدرالية إلى عام 1992. وقد عجز الوضع العراقي بعد عام 2003 عن استحداث فضاء جماعي تتقاسمه الأغلبية، كما تسبب غياب مؤسسات الدولة عن نسيج اجتماعي مبني تاريخياً وثقافياً على أساس الولاء لها بوصفها قاعدة جامعة في استقطابٍ أشدّ حدة مما مضى، وتكرّس من جديد على أساس الولاءات الطائفية، والإثنية، وولاءات العشيرة والمحلية.
أما "صورة الآخر في المتخيل الجمعي.. العرب والكرد في العراق"، فإن الشؤون الاجتماعية في المجال العام بين القوميتين، كالزواج المختلط قومياً، والتجاور، والمشاركة الاقتصادية وغيرها كانت عناصر جمعٍ قوية بين القوميتين. تتقبل الأكثرية المشاركة في تلك الشؤون، في حين شكلت أكثرية القضايا السياسية نقطة افتراقٍ بينهما، ما يدل على أن السياسة تؤدي الدور الأكبر في إفساد العلاقات والروابط بين القوميتين العربية والكردية. قال أحد المختصين العرب إن "استقلال الكرد في شمال العراق حلم أكثر منه إمكانية حقيقية". وإن "هناك انقساماً كردياً – كردياً حادّاً، وهذا الانقسام الكردي لن يتبع بإنتاج دولة حقيقية في كردستان، وبالتالي قضية الحديث عن استفتاء بالإقليم تأتي في إطار التصعيد السياسي للحصول على مكاسب". وكان أحد أهم دارسي القضية الكردية، فرد هاليداي، قد كتب منذ فترة طويلة أن "الانقسامات داخل كردستان تتعمّق، وإننا لسنا إزاء انقسام سياسي وحسب، بل انقسام ثقافي وإيكولوجي ولغوي. وبالتالي، هناك عوامل موضوعية تمنع فكرة الدولة الكردية المستقلة". لكنه استدرك "هذا لا يعني عدم وجود إشكاليات حقيقية بين الإقليم والمركز". ويتحدّث مختصٌ كرديٌّ معالجاً ثلاثة خياراتٍ أمام إقليم كردستان: "الاستقلال السيادي، وأن يحظى باستقلال اقتصادي، من خلال إعادة تعزيز الفيدرالية، أو تصحيح مسار الفيدرالية التوافقية، أو إعلان الدولة الكردية". وأكاد أجزم أن لدى الكرد خلافاتهم الجزئية في ما بينهم، ولكنهم متفقون، من حيث المبدأ، على الأهداف المشتركة، عكس العرب الذين لديهم خلافاتهم الكلية في ما بينهم، ولكنهم متباينون حتى في الأفكار التي تجمعهم.
وأخيراً: دستور غير توافقي
انقلب دستور 2005 في العراق الذي أقر الفيدرالية، وبإلحاح من الكرد، ليصبح وبالاً عليهم، وهو لا يعد كما وصفته إحداهن من أهمّ التطورات القانونية والسياسية التي أحدثت تغييراتٍ أساسيةً في بنية النظام السياسي، والقانوني، والاجتماعي، والاقتصادي، في المجتمع العراقي. ونعتقد، عكس ما قالت، إذ لم تحقق هذه التجربة استقرارًا نسبيًّا في أغلب المستويات، ولم تكن ممهّدةً لإمكانية بناء دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثةٍ في الشرق الأوسط، يكون فيها العرب والكرد شركاء حقيقيين في بناء الوطن، ولكن جملة مشكلاتٍ بدأت تظهر، بعد أن اختلف القائمون على السلطة في تفسير مواد الدستور الذي أقر بعجالةٍ من الأمر. وبدأ مع هذا الاختلاف صراع بين الحكومة الاتحادية التي حاولت فرض سيطرتها على أبعد ما نصَّ عليه الدستور، وحكومة إقليم كردستان التي سعت إلى توسيع الاختصاصات والامتيازات التي جاءت في الدستور لمصلحتها.
وأخيراً، تساءل أحدهم، في نهاية مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.. لقد انتهت اللعبة؟ أجيب إن اللعبة في بدايتها، ولم تبدأ بعد، وأمامنا وأجيالنا المشتركة، عرباً وكرداً، سنوات طوال من تقاذف الكرة في الملعب، حتى تنتهي اللعبة بعد قرابة عقدين أو ثلاثة من الزمن الصعب.
من الموصل إلى العراق وسورية
بدا واضحاً أن جلَّ الكرد العراقيين يعودون، في التقسيم الإداري العثماني إلى ولاية الموصل، وتبين أن التعايش الاجتماعي بين العرب والكرد فيها كان قوياً. وقد كانت هذه الولاية تضمّ كلّ كرد العراق إلى جانب الأطياف الاجتماعية الأخرى. وكان هذا التعايش التاريخي بين الطرفين يمتد أنثروبولوجيًّا إلى أزمنةٍ قديمة، بل إنّه يرجع إلى مشروع إدريس البدليسي في تثبيت أركان الإدارة الأهلية في بلاد الجزيرة وولاية الموصل، على عهد سليم الأول في الفترة 1512-1520. وقد شارك الأكراد في الحياة العراقية، دولةً ومجتمعاً، وخصوصًا في المشتركات السياسية على مستوى الأحزاب أو التمثيل النيابي، وخصوصاً مشتركات "العرب والكرد في العهد الملكي العراقي، إذ بدت محاولةً ناجحةً في بناء الهوية الوطنية العراقية الجامعة"، فمن الثابت تاريخياً أنّ المنطقة الكردية في العراق، وخصوصاً المحافظات الكردية الثلاث، مضافًا إليها قطاعات من محافظات أخرى، كانت على الدوام مناطق تدين بتابعيتها وولائها إلى مركزية بغداد. وعليه، كان سكان هذه المناطق عراقيين على الدوام، مهما كانت التسمية التي تُطلق على هذه الرقعة الجغرافية. وثمّة حقائق لابد من الاعتراف بها، إذ أن العلاقات بين الطرفين كانت، اجتماعياً واقتصادياً، أقوى منها سياسياً وثقافياً، ولا يمكن أبداً، لا اليوم ولا في المستقبل، أن يستغني الكرد عن العرب في كلّ من العراق وسورية، فإنّ ما يجمعهم هو أكثر بكثير مما يفرّقهم، وأن مشتركاتهم ومصالحهم معاً، في كلّ من البلدين، هي أقوى بكثير مما هو عليه الحال في تركيا وإيران.
الشراكة تسبق القطيعة
وثمّة صوتٌ انبعث في واحدة من جلسات المؤتمر يقول إن كرد العراق، حتى إن انفصلوا عن عرب العراق وتركمانه، قريباً أو بعيداً، فإن مصير الجغرافيا هو الذي سيحدّد طبيعة علاقتهم مع بعضهم، فالمصالح التي تجمعهم أقوى بكثيرٍ من الكراهية والأحقاد التي تفرّقهم، والتي يتلاعب الآخرون من خلالها عاطفياً (!). ولقد نوقشت جملة كبيرة من المسائل التاريخية والعالقة من المشاركين، وكثيراً ما يصل المتحاورون إلى عدة نقاط إيجابية بتقاطعاتهم بعضهم الآخر مع بقاء العديد من المفترقات بتحميل بعض الموضوعات أكثر من طاقتها.. ومما يدعو إلى الطمأنينة أن الكرد استجابوا لمثل هذا "المشروع" الحواري والجدلي الرائع، إذ ربما يعقد اللقاء الثاني في كردستان العراق لمواصلة مداولاتٍ من نوع آخر. وقد بدا واضحاً أن تاريخ العلاقات بين الطرفين كانت التعايشات فيه قد أنتجت مشتركاتٍ لا حصر لها في المجتمع، سواء من المصاهرات الأسرية، أو الحلقات الدراسية، أو التكايا الصوفية، أو الأسواق والتبادلات السلعية، وصولاً إلى العادات والتقاليد المشتركة، ولكن عقم السياسات التي مورست في القرن العشرين بالذات قد سببّت افتراقات وتمرّداتٍ واشتعال ثوراتٍ على السلطات التي لم تحسن التعامل بالحكمة والعقل أولاً، في حين كان الكرد لا يكتفون بما يأخذون، بل سعوا إلى تطبيق مبدأ "خذ وطالب". وقد بدأت جذور المشكلة بعد وقوع بلاد الشام والعراق تحت نظام الانتداب. وفي حين خرجت تركيا من التحول بمنزلة الدولة القومية الوحيدة المستقلة، وترتّب على ذلك أنْ كان العرب والأكراد والأرمن أكبرَ الخاسرين.
من المسؤول؟
وهنا، برز صوتٌ عربي يقول للكرد: خرائطنا لم يكن العرب مسؤولين عن وضع خطوطها، فالعرب والكرد والتركمان والأرمن، وكل المسيحيين، وبقية الأطياف الاجتماعية قد ارتهنوا للإرادة الدولية إثر الحرب العالمية الأولى، وإن الهوية الكردية وجدت نفسها تتحرّك بحرية في العراق وسورية ومصر أكثر بكثير مما كان، ولم يزل، حالها في كل من إيران وتركيا. ويأتي صوت كردي مبرزاً غياب موقف عربي موحد من القضية الكردية، على الرغم من أهميتها، ولم تحصل على التوجيه المناسب لها، فيما يصبّ في مصلحة الوحدة والديمقراطية في العراق، ولم تذكر أو يذكر "الكرد" في أيٍّ من الشؤون العربية خلال السنوات الفائتة كلها، مع أهمية هذه القضية وتعلقها، بصورةٍ ما بأمن الشرق الأوسط. أجاب مشاركٌ عربيٌّ بأن علاقات الكرد القديمة بإسرائيل وحتى يومنا هذا، كان ذلك سبباً جوهرياً في وضع علامة استفهام كبيرة، رد عليه مشارك كردي: من أجل قضيتنا العادلة، نطرق كلّ أبواب العالم.
وأعتبر أن غياب سياساتٍ متناسقة ومتوافقة داخل النظام الإقليمي العربي تجاه القضايا الداخلية والخارجية كان أحد الأسباب التي أثرت على شكل التأثير في العلاقات العربية الكردية وقلته. ويعتقد بعضهم أن العرب والكرد قد تعرّضا معاً إلى حالةٍ من الدمج والانصهار الايديولوجي، خلال العقود الأخيرة، وفي مختلف العهود. ويرى بعض العرب أن للكرد كل الحق للمطالبة بـ "حق تقرير المصير"، ولكن المسألة لا تعود إلى العرب في العراق أو سورية، وافقوا أم لم يوافقوا، بل إلى إيران وتركيا في قبول هذا "الحق" واشتراطات هذا المبدأ ومخاطره.. لو أرادت الولايات المتحدة فعل ذلك لمنحت الكرد استقلالهم السياسي منذ 1991 في العراق، واعترفت به، وجعلت العالم كله يعترف سياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً. ولكن، يبدو أن ثمة حساباتٍ أخرى لدى القوى الكبرى! فضلاً عن أنه ليست لدى الكرد توجّهات موحّدة في تشكيل أمّةٍ لها هويتها القومية، مع افتراقاتٍ لغوية وثقافية واجتماعية وسياسية مع افتراقات الكرد على قيادة موحدة. وعليه، فقد استُخدموا "أوراق ضغط" من قوى عدة دولية وإقليمية على نظم سياسية، وعلى حساب أهدافهم.. وإذا كان الكرد الأوائل قد قبلوا أن يكونوا وطنيين عراقيين أو سوريين، فإن الكرد من الجيل الجديد لا يقبلون أبداً الانضواء في دواخل "أوطانٍ" يعتبرها مزيفة (كذا)، ولا ينتمي لها أبداً! ولكنه جيلٌ ليس في استطاعته فهم مشكلته الحقيقية، فهو يعيش قلقاً وطنياً وقومياً ومستقبلياً، فهو لا يعرف أين تمتد حدوده مع الآخر في أراضٍ سمّاها "أراضي متنازع عليها". والمشكلة فيها أنه لم يتوارثها منذ القدم كيانات قائمة بذاتها ولها حدودها، بل هي أراضٍ مختلطة السكان من أراضي ولاية الموصل العثمانية. ويؤكّد أحدهم، وهو يجيب على العرب، قائلاً: أيّ نظرة إلى المسألة الكردية على أنّها مجرّد قضية إدارية أو نزاع على النفط، مع إغفال الأهمية الرمزية والعاطفية للأرض، بوصفها وطنًا، تبسيط للأمور.
مفاهيم ينبغي معرفتها
يعكس تحليل أحد الباحثين وجهات نظر سياسيّة ومستقبليّة، إذ يطرح أحد الأحزاب الكردية "الكونفيدرالية" علاجاً واقياً بعد فشل كلّ من تجربتي الحكم الذاتي واللامركزية والفيدرالية.. كي يتم تحديد العلاقة بين كردستان والعراق مثلاً كونفيدرالياً، أو انبثاق "كونفيدراليات كردية" في سورية والعراق وإيران وتركيا، لكي يوحّدها اتحاد كونفيدرالي. هنا، ينبغي الإجابة على مثل هذا "الطرح"، ذلك أن هؤلاء الباحثين والسياسين الكرد لم يدركوا حتى اليوم ما تعنيه المفاهيم والمصطلحات، حتى يتم استخدامها بهذا الشكل، فالفيدرالية اتحاد كيان إقليمي، والكونفيدرالية تعني اتحاد كيان دولي باتحاد دولٍ معترف بها رسمياً ودولياً.. وبحسب الخطاب الكردي، لا تعني الفيدرالية تقاسم الإدارة من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقط، بل تعني تقاسم السيادة والسلطات أيضاً، فهم يبرّرون ما يقومون به بأن لفيدراليتهم خصوصية، وعلى العراقيين أن يتقبلوا هذه "الخصوصية".
دعوة الكرد إلى الفيدرالية مبنيةٌ حصراً على أساس خصوصيتهم القومية- الإثنية، أي أنهم يريدون أن يتولوا إدارة المناطق التي يعتقدون أنهم يشكلون فيها تاريخياً أغلبية سكانية. وتعود مطالبة الكرد بدولة فيدرالية إلى عام 1992. وقد عجز الوضع العراقي بعد عام 2003 عن استحداث فضاء جماعي تتقاسمه الأغلبية، كما تسبب غياب مؤسسات الدولة عن نسيج اجتماعي مبني تاريخياً وثقافياً على أساس الولاء لها بوصفها قاعدة جامعة في استقطابٍ أشدّ حدة مما مضى، وتكرّس من جديد على أساس الولاءات الطائفية، والإثنية، وولاءات العشيرة والمحلية.
أما "صورة الآخر في المتخيل الجمعي.. العرب والكرد في العراق"، فإن الشؤون الاجتماعية في المجال العام بين القوميتين، كالزواج المختلط قومياً، والتجاور، والمشاركة الاقتصادية وغيرها كانت عناصر جمعٍ قوية بين القوميتين. تتقبل الأكثرية المشاركة في تلك الشؤون، في حين شكلت أكثرية القضايا السياسية نقطة افتراقٍ بينهما، ما يدل على أن السياسة تؤدي الدور الأكبر في إفساد العلاقات والروابط بين القوميتين العربية والكردية. قال أحد المختصين العرب إن "استقلال الكرد في شمال العراق حلم أكثر منه إمكانية حقيقية". وإن "هناك انقساماً كردياً – كردياً حادّاً، وهذا الانقسام الكردي لن يتبع بإنتاج دولة حقيقية في كردستان، وبالتالي قضية الحديث عن استفتاء بالإقليم تأتي في إطار التصعيد السياسي للحصول على مكاسب". وكان أحد أهم دارسي القضية الكردية، فرد هاليداي، قد كتب منذ فترة طويلة أن "الانقسامات داخل كردستان تتعمّق، وإننا لسنا إزاء انقسام سياسي وحسب، بل انقسام ثقافي وإيكولوجي ولغوي. وبالتالي، هناك عوامل موضوعية تمنع فكرة الدولة الكردية المستقلة". لكنه استدرك "هذا لا يعني عدم وجود إشكاليات حقيقية بين الإقليم والمركز". ويتحدّث مختصٌ كرديٌّ معالجاً ثلاثة خياراتٍ أمام إقليم كردستان: "الاستقلال السيادي، وأن يحظى باستقلال اقتصادي، من خلال إعادة تعزيز الفيدرالية، أو تصحيح مسار الفيدرالية التوافقية، أو إعلان الدولة الكردية". وأكاد أجزم أن لدى الكرد خلافاتهم الجزئية في ما بينهم، ولكنهم متفقون، من حيث المبدأ، على الأهداف المشتركة، عكس العرب الذين لديهم خلافاتهم الكلية في ما بينهم، ولكنهم متباينون حتى في الأفكار التي تجمعهم.
وأخيراً: دستور غير توافقي
انقلب دستور 2005 في العراق الذي أقر الفيدرالية، وبإلحاح من الكرد، ليصبح وبالاً عليهم، وهو لا يعد كما وصفته إحداهن من أهمّ التطورات القانونية والسياسية التي أحدثت تغييراتٍ أساسيةً في بنية النظام السياسي، والقانوني، والاجتماعي، والاقتصادي، في المجتمع العراقي. ونعتقد، عكس ما قالت، إذ لم تحقق هذه التجربة استقرارًا نسبيًّا في أغلب المستويات، ولم تكن ممهّدةً لإمكانية بناء دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ حديثةٍ في الشرق الأوسط، يكون فيها العرب والكرد شركاء حقيقيين في بناء الوطن، ولكن جملة مشكلاتٍ بدأت تظهر، بعد أن اختلف القائمون على السلطة في تفسير مواد الدستور الذي أقر بعجالةٍ من الأمر. وبدأ مع هذا الاختلاف صراع بين الحكومة الاتحادية التي حاولت فرض سيطرتها على أبعد ما نصَّ عليه الدستور، وحكومة إقليم كردستان التي سعت إلى توسيع الاختصاصات والامتيازات التي جاءت في الدستور لمصلحتها.
وأخيراً، تساءل أحدهم، في نهاية مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.. لقد انتهت اللعبة؟ أجيب إن اللعبة في بدايتها، ولم تبدأ بعد، وأمامنا وأجيالنا المشتركة، عرباً وكرداً، سنوات طوال من تقاذف الكرة في الملعب، حتى تنتهي اللعبة بعد قرابة عقدين أو ثلاثة من الزمن الصعب.