"الصبوحات" الباريسيات لا يفكرن بالعنوسة ويؤمنّ بالحب

11 ديسمبر 2014
ما أجملها تلك السيدة التي كلّلت نهاري بالفرح (Getty)
+ الخط -
بينما كنتُ أجرّ عربة التسوّق خلفي، كانت تدفع عربتها أمامها، وتتكىء عليها، تسير بخطوات مثقلة، تشبه خطو البط، تحمل قدماً، تضعها، ثم ترفع الأخرى، فهي لا تستطيع الوقوف على قدم واحدة، ولا لبرهة، إذ لا يُساعدها عمرها. هي في الثمانين أو التسعين من عمرها، أو ربما أكثر. ابتسمتْ لي ونحن نلتقي في قسم مواد التنظيف، وتابعت دندنتها مصاحبة الأغنية التي كانت تصدح في المخزن حفاظاً على حيوية الزبائن. ترسم الحيوية على وجهها. مكياج خفيف، وأحمر شفاه.. تابعت التسوق والدندنة بمرح، مستعيدةً ذكريات السنوات الماضية التي أيقظتها الموسيقى. تابعتها بنظراتي، معجبة بها، وسعيدة أيضاً، وكأنّها بمرحها ومزاجها المنتشي بالحياة، صفعت كآبتي. وددتُ إيقافها وسؤالها عن مصدر إحساسها بالفرح القافز من عينيها، رغم سنواتها الثقيلة، لكنني طبعاً لم أجرؤ. حين خرجت من المخزن، رأيتها تفكّ السلسلة التي ربطتها حول الباب، وتُطلق سراح كلبها القابع منتظراً انتهاء صاحبته من التسوق. قفز الكلب بحيوية داخل السيارة، بعد أن فتحت العجوز الباب، أفرغت محتويات العربة داخل صندوقها، وبالخطوات البطيئة، جلست خلف المقود، أدارت المحرّك وتحضّرت للانطلاق.

وصلتني موسيقاها وأنا أقطع الشارع بعدها، عبرت سيارتها وتركت في ذاكرتي السمعية موسيقى مرحة. رافقت الموسيقى العجوز إلى بيتها على الأغلب، حيث لا يدهشني أن يكون زوجها أو حبيبها بانتظارها هناك، ليُعدّا الطعام معاً.

فرانسواز السبعينية تقريباً، لا تزال تحمل ملامح شابة العشرين، تحمرّ خجلاً حين يمتدحها أحد، وتتحول بشرتها البيضاء إلى لون قريبٍ من الأحمر حين تتحدث غاضبة عن سورية. فرانسواز التي يعرفها أغلب السوريين المقيمين في باريس منذ سنوات طويلة، تحاول تعلم اللغة العربية لتقترب أكثر من قلوبنا، لا تنفك تسير برفقة ميشيل، زوجها الذي يبدو مغرماً بها كل لحظة، يسيران وأصابع أيديهما متشابكة كعاشقين. يتظاهران معنا، يندّدان بالمجازر، يساعدان السوريين قدر إمكانياتهما وأشياء كثيرة لا يتسع المجال للحديث عنهما، إلاّ سريعاً كعاشقين محبّين للحياة.

في علبة بريدي، تصلني رسائل خاطئة، موجّهة إلى هذه السيدة وقريناتها وأقرانها، "نادي العشاق المسنين"، مع "كليشيهات": الحب لا يعرف العمر ـ لم تتأخر على الحب ـ الحب يأتي في السبعين.... وعباراتٌ كثيرة تحضّ على التواصل والانتساب إلى النادي، والتعرف على شريك الكهولة.

تدفعنا هذه الرسائل إلى تذكّر امرأة نادرة في ثقافتنا العربية، الصبوحة طبعاً. هي التي تكاد تكون حالة نادرة من الشخصيات العامة، بينما هناك "صبّوحات" مجهولات لا نعرفهنّ في عالمنا العربي، يعِشن بعيداً عن ضوضاء المحاكمة، بينما "صبّوحات" باريس يعِشن غرامياتهن، ويهتممن بأناقتهن، بمكياجهن، كأنهن صبايا في العشرينيات، دون شعور بالذنب أو الإدانة. في هذه النوادي، لا يتوقف الأمر على الحب والبحث عن الشريك العاطفي، بل ثمة مُقترحات لنشاطات عديدة، القراءة والسينما والمسرح والحوارات ولعب الورق والسفر. وتُنظّم عدة بلديات رحلات جماعية لأشخاص من فئة عمرية معينة، المتقاعدين مثلاً. وفي الطريق، تنشأ صداقات جديدة، وربما غراميات للعزّاب والأرامل والمتروكين. فالحب لا يتوقف هنا. هناك دائماً فرصة لبداية جديدة، وحبّ جديد، طالما الإنسان على قيد الحياة.
هذه الحالة "الصبّوحية" التي نفتقدها لدينا، في ثقافتنا، التي تسجن المسنين في حالة الحكمة والرصانة وسرد الحكايات.

فالحب يليق بالكبار أيضاً، والجمال يليق بالكبيرات. ما أجملها تلك السيدة التي كلّلت نهاري بالفرح، ودفعتني إلى التفاؤل، بصوتها المدندن، بمكياجها الخفيف، بل حتى بطلاء أظافرها الخمري الفاقع، حيث إعلانات حب الحياة، والاستفادة منها حتى النَفَس الأخير، تكمن في كل تلك التفاصيل.

علينا أن نحسد "الصبوحات" الباريسيات. يعشن كل لحظاتهن باحتمال الوقوع في الحب، ولقاء الشريك، بينما لا تكاد تبلغ الصبية الثلاثين، أو أقل ربّما، في بلادنا، حتى يبدأ الحديث عن قلق العنوسة.

"الصبوحات" الباريسيات لا يفكرن بالعنوسة، ويؤمنّ أنّ الحبيب قادم كل لحظة. فمتى نحب "صبّوحتنا" ونتعلم منها حب الحياة، لأنّنا ما دمنا أحياء، ثمة دائماً أمل بعيش جميل ومختلف!
دلالات
المساهمون