"الشيء الآخر" أو من قتل غسّان كنفاني؟
هل كنّا نحتاج، حقًّا، إلى ثمانية وأربعين عامًا، لنصدّق نبأ اغتيال غسّان كنفاني؛ ألأنّ هذا الرقم، تحديدًا، ينطوي على أول دليل ملموس يوثّق رحيلين معًا: فلسطين 1948، وفلسطين غسّان كنفاني؟ كيف يقنعنا الزمن، بكل عقوده وقرونه وسنواته التي قدّمها أدلة ووثائق ومستندات، بأن الوطن مات مرة بالاحتلال، وأخرى بالاغتيال، فصار علينا أن نصدّق أن صاحب "السرير رقم 12" قد مات فعلًا.
ولئن صدّقنا، فإن الصدمة ذات فصول أخرى؛ لأن علينا، بعد ذلك، أن نصدّق أن إسرائيل هي من اغتالت غسّان كنفاني عام 1972. وهنا علينا أن نتأنّى طويلًا قبل أن يحملنا الغباء على التصديق، وإلا فإن أول من سيهزأ بعقولنا هو غسّان ذاته، وقد نحتاج إلى أزيد من 1967 عامًا لكشف القاتل الحقيقي، إذا لم نتتبع دليل الإدانة الذي رسمه غسّان في مسارات قصصه ورواياته ومصائر أبطالها ليدلّنا عليه.
ربما أراده لغزًا من ألغازه التي لا يتقن الإجابة عنها سوى المفتونين ببرتقال حيفا على غراره، غير أن غسّان لم يترك محضر التحقيق مفتوحًا، عبثًا، في رواية "الشيء الآخر"، لأنه كان يريد منا أن نبحث عن ذلك "الشيء الآخر" المجهول، المتواري، لكن المحرّك فرق الاغتيال. ومن ثم إذا عرفنا من قتل ليلى الحايك في الرواية، سنعرف من قتل غسّان كنفاني على أرض الواقع.
صحيحٌ أن أضلاع مسدس الاغتيال لا تكتمل بغير ضلع "الموساد"؛ لأننا نعرف أن إسرائيل التي تسبقنا بخطوةٍ دائمًا، درجت على تبنّي نهج "الأمن الوقائي" ليبقى ميزانها العسكريّ متفوقًا على "جيرانها" كما تسميهم. ولكن ما لم نكن نعرفه أن دائرة "الأمن الوقائي" الإسرائيلية كانت تشمل المثقفين، أيضًا، فجاء غسان فاتحة أولى، ثم تلته أسماء أخرى، وصولًا إلى ناجي العلي. فما الذي جمع بين هؤلاء وخشيته إسرائيل؟ علمًا أن الإجابة هي الخيط الذي يقود إلى "الشيء الآخر"، أو القاتل "الآخر" إن شئنا الدقة، كما شاءها غسّان.
ربّ قائل إن غسّان كنفاني مولعٌ بالنهايات المفتوحة. ولذا لن يفلح محقق، مهما بلغ ذكاؤه، في كشف القاتل. وهي وجهة نظر لافتة، غير أن من يقرأه كاملًا غير مجزوء، سيعرف أن خواتيمه متحرّكة من عمل إلى آخر، في صعودٍ دراميّ مثير، فرجال الشمس الذين لم يطرقوا جدران الخزّان طرقوه فعلًا بعد ذلك، والحلم الذي لم يكتمل بوصولهم إلى الكويت، أو "بلد الثروات" الذي كان في أذهانهم، وصل إليه حفيدهم سعد الدين، حين سافر إلى "بلد اللؤلؤ"، غير أن الحلم تضاءل ثانيةً ليصبح رهانًا على لؤلؤةٍ في جوف محارةٍ على رصيفٍ مبلول، وليموت صاحب الحلم في جوف المحارة، كما مات أسلافه في جوف صهريج .. وفي الحالين، كان الميّت الحقيقي هو حلم الفلسطيني خارج وطنه، وأيّ عيش سواه لن يكون إلا بمصادفةٍ تشبه الصّدَفة.
ذلك هو الشطر الأول من ركني الجريمة: "الميّت الحقيقي". كان غسّان يريد أن يقول إن موت الفلسطيني لا يكون إلا بموت حلمه، وبأن أي حلم لا يلامس فضاء الوطن هو محض محارة أو صهريج.
أما الشطر الثاني أو "القاتل الحقيقي"، فهو كل من يتواطأ على هذا الحلم، وفي مقدّمتهم فلسطينيون فقدوا فحولتهم الوطنية، كأبي الخيزران وغيره، وعرب شاركوا بقيادة الصهريج (التابوت) وسمعوا قرع الخزّان ولم يستجيبوا، وطاردوا الحالم بالعصيّ والهراوات والسجون والحصار والحدود، وعقدوا تحالفا عضويًّا مع "الجار الجديد"، لأنهم رأوا في هذا الحالم "ألوية فكرية مسلحة"، على غرار ما رأته غولدا مائير في غسّان. كان تحالفًا مشتركًا ضدّ حلم عظيم حمله شعب مهجّر إلى أبعد محارات الأرض، وفي القتل تبادل أدوار؛ لأن المصلحة مشتركة، ولا فرق بين الموساد وأجهزة اغتيال عربية، وما تخشاه إسرائيل هو عين ما تخشاه أنظمة عربية.
هل بعد كل هذه الأدلة الدامغة، ما زلنا نصدّق أن إسرائيل هي من اغتالت غسّان كنفاني، أم علينا بدء تحرّياتنا الفعليّة عن القاتل الحقيقي أو ذاك "الشيء الآخر"؟ وقبل هذا وذاك: أتُرانا صدّقنا أن غسّان كنفاني قد مات؟.. ما أكذب الزمن!