لا يدري الدّاخل إلى فندق "السّاحة" المتواجد في قلب ساحة الحرية، ساحة شيرون سابقاً، في مدينة برج بوعريريج، 250 كيلومتراً إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، وعلى بعد خطوات من برج المقراني (1871)، هل ينام أم يبقى صاحياً ليتأمّل التحف التّاريخية، التي تحاصره منذ المدخل إلى غرفته. حيث تواجهه تحف تكتنز ذاكرة ما في كلّ زاوية من زواياه، منافساً المتحف الحكومي في هذا الباب.
تاريخ المكان
يتكوّن الفندق من 11 غرفة متفاوتة المساحة بـ25 سريراً، فهو شبيه بفنادق الرّيف الفرنسي، خاصّة إذا راعينا لمسته المعمارية الفرنسية، إذ شيّد المبنى السّيد بن سالم، الذي كان عضواً في البرلمان الفرنسي وأحد أوائل الأطبّاء الجزائريين في أربعينيات القرن العشرين ليكون مقرّاً عائلياً، إلى أن اشترته، قبل عشرين عاماً، عائلة الفنّان المسرحي ربيع قشي (1965) أحد مؤسّسي مسرح الشّارع في الجزائر. يقول ربيع قشّي لـ"العربي الجديد" إن هواية جمع التّحف والأغراض النّادرة مكّنته مبكّراً من جمع عدد معتبر منها، من عدّة جهات في مقدّمتها عائلات المنطقة، التي تعاقبت عليها عدّة حضارات عربية وغربية، "وكانت مركونة في البيت العائلي الكبير، فلمّا اشترينا المبنى وقرّرنا أن نجعل منه فندقاً رأيت أنه الفضاء الأنسب لضمّ ما أتوفّر عليه من تحف". يتدارك ربيع قشّي: "هذا لا يعني أن البعد المتحفي للفندق ليس ثمرة لقناعتي بأن الفندق فضاء ثقافي قبل أن يكون مكاناً للنّوم". يشرح قشّي فكرته: "غياب الرّوح الثقافية عن فنادقنا في الجزائر هو ما جعلها مجرّد فضاءات ميّتة وخاملة وخانقة حتى وإن كانت مدجّجة بالنّجوم، إذ قلّما نجد فندقاً مصنّفاً في إحدى مدننا يملك القائمون عليه الحسّ الفني والحضاري الكافي، الذي يجعل لوحاته التشكيلية أصلية والتحف المبثوثة في جنباته ذات قيمة تاريخية تذكر". يسأل: "إن المدخول الماليّ للفنادق معتبر، وإن محيطها ثري بالتحف والأغراض التاريخية، فما يمنعها من اقتناء ما هو متاح، لحمايته من الضّياع والتّلف من جهة، ولإعطاء معنى حضاري للفندق من جهة ثانية؟".
آثار خالدة
على جنبات السّلالم الخشبية والرّخامية لفندق "السّاحة"، تغازلك تحف تعود إلى الذّاكرة الشّعبية القريبة المندثرة بفعل التحوّلات غير المدروسة في الفضاء الجزائري، مثل أدوات النّسيج وأدوات الحرث والحصاد. كما يمكنك أن تجد أدواتٍ تؤرّخ لذاكرة المدينة، مثل أوّل مصوّرة استعملت فيها تعود لعائلة نعيجي، وأوّل لوح لصناعة الخبز الحديث يعود إلى عائلة بجّو، إذ لا يزال أبناء العائلتين يمارسون المهنتين إلى غاية اليوم، وأوّل إناء حديدي لتعقيم الأدوات الطّبية، وأوّل آلة لمعالجة الحلفاء وتحويلها إلى أفرشة، يتوفّر الفندق على عدد منها، تعود إلى بداية القرن العشرين. في البهو المضاء بقناديل تشكّل بدورها تحفاً شاهدةً على مراحل تطوّر المصباح في المنطقة، يقعد صندوقان يعود أحدهما إلى الدّولة الحمّاية، التي كانت منطقة برج بوعريريج تابعة لها، 1014 ـ 1152، وآخر يعود إلى الفترة العثمانية في الجزائر، 1515 ـ 1830، إلى جانب تحف ذات عمر قصير بالمقارنة مع عمري الصّندوقين، لكنّها ذات دلالة خاصّة بحكم كونها مجهولة لدى الجيل الجديد، مثل السّيف الطوارقي والسّيف الياباني ونافخ الكير، الذي كان يستعمله الحدّادون في نهايات القرن التّاسع عشر.
اقــرأ أيضاً
أرشيف البلاد الثقافي
لا تخلو غرفة من الغرف من كتب ومجلّات يعود معظمها إلى النّصف الأوّل من القرن العشرين، حيث رائحة الورق الأصفر بطعم كتابات عمالقة الأدبين الفرنسي والرّوسي، ومن أسطوانات غنائية تعود لمغنّين كانوا يهيمنون على الذّائقة الفنية للجزائريين في القرن العشرين، مثل الحاج محمّد العنقا ونورة وثلجة وسامي الجزائري وثلاثي الزّهور وراينا راي وبلاوي الهوّاري والحاج محمّد الطّاهر الفرقاني، إلى جانب أشرطة فيلمية يعود أقدمها إلى ثلاثينيات القرن العشرين. يقول رائد السينوغرافيين الجزائريين عبد الرّحمن زعبوبي لـ"العربي الجديد" إنه يحسّ بالخيانة لروح وذاكرة المسرح الجزائري إذا حدث أن زار مدينة برج بوعريريج وبات في غير فندق "السّاحة"، "إلا إذا كنت مضطرّاً، لأن بعض غرفه تتوفّر على ملصقات المسرحيات والمهرجانات المسرحية، التي عرفتها البلاد منذ فجر الاستقلال الوطني إلى غاية يومنا هذا، من ذلك تلك المخلّدة لأعمال "مسرح التّاج" الأب الرّوحي لمسرح الشّارع في الجزائر، منذ عام 1992، حيث كان الإرهاب والعنف يحاصران الحياة في الشّارع الجزائري".
في دفتر الشّهادات المصنوع يدوياً، أجمع من كتب فيه من المسرحيين والسّينمائيين والرّسّامين والأدباء والرّياضيين والإعلاميين، إذ يُعدّ هؤلاء أكثر زبائن الفندق، على أنّ المبيت فيه يعدّ حدثاً ثقافياً في حدّ ذاته. كتب المخرج عمّار العسكري قبل رحيله عام 2015: "انتابني شعور بأنّني أمام مشهد سينمائي جاهز، وما عليّ إلا أن أقوم بدوري في الإخراج".
يجعل هذا الزّخم الحضاري لفندق "السّاحة" قاصده العارف بقيمته الفنية والتّاريخية يُصاب بالدّهشة حين يسأل عن سعر الغرفة، فيجيبه المكلّف بالاستقبال، والذي يتعامل مع هذه التحف كما لو كانت بناته، بأن السّعر لا يتجاوز 18 دولاراً أميركياً. "إنه مبلغ زهيد" يقول معظم الزّوّار.
تاريخ المكان
يتكوّن الفندق من 11 غرفة متفاوتة المساحة بـ25 سريراً، فهو شبيه بفنادق الرّيف الفرنسي، خاصّة إذا راعينا لمسته المعمارية الفرنسية، إذ شيّد المبنى السّيد بن سالم، الذي كان عضواً في البرلمان الفرنسي وأحد أوائل الأطبّاء الجزائريين في أربعينيات القرن العشرين ليكون مقرّاً عائلياً، إلى أن اشترته، قبل عشرين عاماً، عائلة الفنّان المسرحي ربيع قشي (1965) أحد مؤسّسي مسرح الشّارع في الجزائر. يقول ربيع قشّي لـ"العربي الجديد" إن هواية جمع التّحف والأغراض النّادرة مكّنته مبكّراً من جمع عدد معتبر منها، من عدّة جهات في مقدّمتها عائلات المنطقة، التي تعاقبت عليها عدّة حضارات عربية وغربية، "وكانت مركونة في البيت العائلي الكبير، فلمّا اشترينا المبنى وقرّرنا أن نجعل منه فندقاً رأيت أنه الفضاء الأنسب لضمّ ما أتوفّر عليه من تحف". يتدارك ربيع قشّي: "هذا لا يعني أن البعد المتحفي للفندق ليس ثمرة لقناعتي بأن الفندق فضاء ثقافي قبل أن يكون مكاناً للنّوم". يشرح قشّي فكرته: "غياب الرّوح الثقافية عن فنادقنا في الجزائر هو ما جعلها مجرّد فضاءات ميّتة وخاملة وخانقة حتى وإن كانت مدجّجة بالنّجوم، إذ قلّما نجد فندقاً مصنّفاً في إحدى مدننا يملك القائمون عليه الحسّ الفني والحضاري الكافي، الذي يجعل لوحاته التشكيلية أصلية والتحف المبثوثة في جنباته ذات قيمة تاريخية تذكر". يسأل: "إن المدخول الماليّ للفنادق معتبر، وإن محيطها ثري بالتحف والأغراض التاريخية، فما يمنعها من اقتناء ما هو متاح، لحمايته من الضّياع والتّلف من جهة، ولإعطاء معنى حضاري للفندق من جهة ثانية؟".
آثار خالدة
على جنبات السّلالم الخشبية والرّخامية لفندق "السّاحة"، تغازلك تحف تعود إلى الذّاكرة الشّعبية القريبة المندثرة بفعل التحوّلات غير المدروسة في الفضاء الجزائري، مثل أدوات النّسيج وأدوات الحرث والحصاد. كما يمكنك أن تجد أدواتٍ تؤرّخ لذاكرة المدينة، مثل أوّل مصوّرة استعملت فيها تعود لعائلة نعيجي، وأوّل لوح لصناعة الخبز الحديث يعود إلى عائلة بجّو، إذ لا يزال أبناء العائلتين يمارسون المهنتين إلى غاية اليوم، وأوّل إناء حديدي لتعقيم الأدوات الطّبية، وأوّل آلة لمعالجة الحلفاء وتحويلها إلى أفرشة، يتوفّر الفندق على عدد منها، تعود إلى بداية القرن العشرين. في البهو المضاء بقناديل تشكّل بدورها تحفاً شاهدةً على مراحل تطوّر المصباح في المنطقة، يقعد صندوقان يعود أحدهما إلى الدّولة الحمّاية، التي كانت منطقة برج بوعريريج تابعة لها، 1014 ـ 1152، وآخر يعود إلى الفترة العثمانية في الجزائر، 1515 ـ 1830، إلى جانب تحف ذات عمر قصير بالمقارنة مع عمري الصّندوقين، لكنّها ذات دلالة خاصّة بحكم كونها مجهولة لدى الجيل الجديد، مثل السّيف الطوارقي والسّيف الياباني ونافخ الكير، الذي كان يستعمله الحدّادون في نهايات القرن التّاسع عشر.
أرشيف البلاد الثقافي
لا تخلو غرفة من الغرف من كتب ومجلّات يعود معظمها إلى النّصف الأوّل من القرن العشرين، حيث رائحة الورق الأصفر بطعم كتابات عمالقة الأدبين الفرنسي والرّوسي، ومن أسطوانات غنائية تعود لمغنّين كانوا يهيمنون على الذّائقة الفنية للجزائريين في القرن العشرين، مثل الحاج محمّد العنقا ونورة وثلجة وسامي الجزائري وثلاثي الزّهور وراينا راي وبلاوي الهوّاري والحاج محمّد الطّاهر الفرقاني، إلى جانب أشرطة فيلمية يعود أقدمها إلى ثلاثينيات القرن العشرين. يقول رائد السينوغرافيين الجزائريين عبد الرّحمن زعبوبي لـ"العربي الجديد" إنه يحسّ بالخيانة لروح وذاكرة المسرح الجزائري إذا حدث أن زار مدينة برج بوعريريج وبات في غير فندق "السّاحة"، "إلا إذا كنت مضطرّاً، لأن بعض غرفه تتوفّر على ملصقات المسرحيات والمهرجانات المسرحية، التي عرفتها البلاد منذ فجر الاستقلال الوطني إلى غاية يومنا هذا، من ذلك تلك المخلّدة لأعمال "مسرح التّاج" الأب الرّوحي لمسرح الشّارع في الجزائر، منذ عام 1992، حيث كان الإرهاب والعنف يحاصران الحياة في الشّارع الجزائري".
في دفتر الشّهادات المصنوع يدوياً، أجمع من كتب فيه من المسرحيين والسّينمائيين والرّسّامين والأدباء والرّياضيين والإعلاميين، إذ يُعدّ هؤلاء أكثر زبائن الفندق، على أنّ المبيت فيه يعدّ حدثاً ثقافياً في حدّ ذاته. كتب المخرج عمّار العسكري قبل رحيله عام 2015: "انتابني شعور بأنّني أمام مشهد سينمائي جاهز، وما عليّ إلا أن أقوم بدوري في الإخراج".
يجعل هذا الزّخم الحضاري لفندق "السّاحة" قاصده العارف بقيمته الفنية والتّاريخية يُصاب بالدّهشة حين يسأل عن سعر الغرفة، فيجيبه المكلّف بالاستقبال، والذي يتعامل مع هذه التحف كما لو كانت بناته، بأن السّعر لا يتجاوز 18 دولاراً أميركياً. "إنه مبلغ زهيد" يقول معظم الزّوّار.