"السينما الرابعة": مناهضة شاشات الكولونيالي

27 يونيو 2016
(أثناء تصوير "تانّا" لـ بنتلي دين ومارتن باتلر)
+ الخط -

ليس "السينما الرابعة" مصطلحاً عرضيّاً. إنه معضلة إيديولوجية وتحريضيّة، مناهضة لما يُمكن تسميته بـ "الشاشة المُطَهِّرة". أقطابها النافذون في شركات "بيضاء" عابرة للعقائد والأحلاف، وساعية إلى صناعة إمبريالية ذات شعبية طاغية، لا غرماء لها. من مهمّاتها الخفيّة، تعطيل الإدراك التاريخي بحقوق أمم مغدورة، وجعل "شيطنة" مواطنيها فرماناً سياسياً، يزكّي ما لحقها من جور، عُمِّد بدماءٍ وتلفيقٍ ودسائس وتنقية أعراق.

هذا مصطلح تسبيقي، ولد في سبتمبر/ أيلول 2002، خلال محاضرة ألقاها الأكاديمي باري باركلي في "جامعة أوكلاند" بنيوزيلندا، ونشرها لاحقاً في مجلة "إليوشنز" (أوهام) الفنية المتخصّصة، حَدّد فيها مُلكية "السينما الرابعة" بالسكان الأصليين في أنحاء العالم، بعد أولى أميركية (هوليوود)، وثانية خاصّة بـ "الفيلم الفني" (تُقرأ أيضاً "الأوروبية")، أما الأخيرة فأرجعها إلى "العالم الثالث".

حجّته أن السينمات تلك "يمتلكها برمّتها الغازي"، مُعتبراً أن ثقافات "الإيبورجينيين" هي "بقايا مقاومة ثقافيّة، داخل دولة قومية حداثية"، وضعت "هويتهم العرقية خارج أعرافها الوطنية"، وبالتالي فإن "سينماهم موجودة أيضاً خارج عقيدتها". فسّرت زميلته كورين كولومبار هذا الـ "خارج" بما يلي: "العالم الرابع لا يشير إلى بقعة جغرافية محدَّدة بل إلى غيابها".

تجلّى هذا التغييب بحنكة درامية في جديد الماوري لي تاماهوري، "البطريرك" (2016)، بتوثيقه "كفاحاً يصل إلى مصاف القهر"، يُمارسه جدّ عائلة من الماوريين على أبنائه وأحفاده، لحضّهم على عدم التفريط بحقول العائلة، ودارتها الريفيّة. فهما كنايتان عن حقّ تاريخي يتربّص به الـ "كولونياليّ" الأبيض كي ينهبه، قبل أن يجهز على جنسهم.

منظومة "السينما الرابعة"، بنصوصها وأبطالها وفنّييها ومشتغليها، معقودة عند باري باركلي على السينمائي "الإبورجيني". فمن دونه، لن تتوافر صواب النظرة لطقوسهم وشعائرها، وأدوات معيشتهم، وتفاصيل عاداتهم، وأكسسوارات بيوتهم، وأوشام معتقداتهم، وزيجاتهم ورقصاتهم، ونقاشات حكمائهم.

أفلمة حيواتهم بـ "صورة منصفة"، لن يحقّقها سواهم، إلاّ نادراً، كما هي السابقة السينمائية التي أنجزها الأستراليان (الأبيضان) بنتلي دين ومارتن باتلر، بنصّهما المفاجئ "تانّا" (2015)، حول الشابة "واوا"، عاشقة الوسيم "دين"، وصدود أهلهما الذي يدفعهما نحو خيار الموت.

هو أول فيلم مُصوَّر في الجزيرة النائية، التي حمل الفيلم اسمها، وأُنجز مع مؤدّين محليين من قبائل "فونواتو"، وبلغتهم، وضمن بيئتهم، محقِّقاً رصداً إثنوغرافياً، ورث حصافته من اشتغالات وجرأة مواطنهما المعلم رولف دي هير، في ثلاثيته الأثيرة "المتعقِب" (2001) و"عشر قوارب كانو" (2006) و"وطن تشارلي" (2014)، من دون إغفال ذكر الدرّة السينمائية، التي أنجزها الكولومبي سيروا غيرا بعنوان "عناق الأفعى" (2015)، ومغامرته في تصوير آخر رجل من قبيلة "أوساينا" في الغابات الإستوائية، حيث يشهد هذا الـ "شامان" (رجل دين طوطمي) مجازر الغزاة، واستبدادهم بأهله، وتخريبهم عوالمه وبيئته، من أجل استغلال المطاط من أشجارها.

على الرغم من أن تراكماً إنتاجياً، يمهِّد لإضفاء شرعية نقدية على هذا المصطلح، غير متوفر، فإن باري باركلي لم يخش وضع قائمة أولية بمخرجين، حاجج بأن مواهبهم قمينة بتوليد صناعة سينمائية ذات وحدة سوسيولوجية، تمتلك أهدافاً نضالية للدفاع عن "الإيبورجين" ضد شاشات الـ "كولونياليّ"، وعرض محنهم والمخاطر التي تهدّد أحفادهم، ومثلها الحيف التاريخي الذي طاول آباءهم، ذاكراً أسماء المخرجة (من قبائل أستراليا) تريسي موفيت وعملها "مفتون"، والنرويجي (من قبائل "سامي") نِلْ غاوب وفيلمه "المستكشف"، والأميركي (من قبائل "شايان") كريس أيير وفيلمه "شارات دخانية"، والمخرج (من قبائل "أنويت" القطبية) زاكرياس كونوك ونصّه "العداء"، وآخرين.

شدد باركلي على أن الأرقام لن تحلّ المعضلة، لكنها تعكس حقيقة أن "نظرية الشعب الواحد، ونموذج الشعب الواحد، معادلة لتبرير انقراض الشعوب الأصلية"، مؤكّداً أن "لا ذائقة واحدة"، بل "عصر نجتمع على تحديد جوهره".

هذه رؤية رجل مؤسِّس، منذ عام 2002. ما حدث لاحقاً، أشبه بمعجزة، تسايرت مع انقلاب كبير في الذهنية الغربية وسلوكياتها تجاه هذه الأقوام.

استتباب الدول التي صنعها الغزاة، وتعاظم أنظمتها وعدد سكانها، مقابل النكوص الاجتماعي لـ "الأصليين" واندماج أعداد منهم ضمن مجتمعات هجينة، مهّدا لما يشبه حالة "طلب غفران" أبيض تاريخي، كانت للسينما فيه حصّة.

مثلاً، خصّص "مهرجان برلين السينمائي"، منذ أعوام، خانة مبتكرة بعنوان "أصلي، رحلة في سينما الأصليين (نايتف)"، يستضيف فيها أشرطة تداور الشأن العرقي لبقايا أمم وحيواتهم وحكاياتهم، ويحتفي بموروثهم ومطبخهم.

من جانبه، لم يفوّت "مهرجان ساندانص" الأميركي الفرصة، فاستضاف 6 مخرجين من "الأصليين" دفعة واحدة، في دورته الأخيرة (يناير/ كانون الثاني 2016)، أبرزهم الماوري تايكا واتيتي.

دلالات
المساهمون