المتابعُ، على اختلاف ثقافته، لن يملّ من منشوراتِ الصّفحة، ابتداءً من صورِ الطّبيعة الخلّابة، وصولًا إلى نمطها العمرانيّ، وسيغرقُ في تفاصيل نظام حُكمها الملكيّ-البرلمانيّ، وخدماتِ التّعليم والصّحة، والعاداتِ والتقاليد، ومعدّلات البطالة، والسّجون الفاخرة، ونِظام الضّرائب. إلّا أنّ تعرّضهُ لنوبة اكتئابٍ سيبقى أمرًا محتملًا؛ طالما أنّه يقرأ ويُشاهد ويُقارن.
هذا الاكتئاب أمرٌ لا مفرّ منهُ في منطقتنا العربية، إن لم تُصَب بأحدِ أعراضهِ نتيجةً للظروف السياسيّة والاقتصاديّة وموجة التطرّف التي تضربنا، فسيتمكّنُ منكَ بسببِ هذه الصّفحة بالذّات. إنّهم يحدّثوننا عما نأملهُ تمامًا، وما نعي استحالةَ تطبيقهِ هنا، على الأقل أهميّة الوقوف بالدّور، وتوقّف الجميعِ عن العملِ مرّتين في اليَوم للاستراحة وتناول الغداء أو القهوة، وأنّهم ينادونَ الطبيب والأستاذ والسبّاك ووزير الداخلية ورئيس الوزراء، باسمائهم دون الحاجة للتفكير في أيّ الألقاب أحبّ إلى قلبه، وأنه لا يُمكن أن تسأل شخصًا في بلدهم عن دينه أو دخلهِ المادّي أو انتمائِه السّياسيّ، وهي العواملُ ذاتها التي نستخدمها يوميًا في نظامِ الحُكم والزّاوج والعمَل، والاقتتال أيضًا.
في اللحظةِ التي تتخذُ فيها قرار الدّخول لأحدِ مواقعِ التّواصل الاجتماعيّ، تكون موافقًا بالضّرورة على التّعرضِ للكثير من المُحتوى غير المُهمّ، المُستفزّ في معظمِ الأحيان، وستجدُ نفسكَ حذرًا قدرَ الإمكان من الانخراطِ مع "القطيع"، وهي الصّفة التي أطلقها نيتشه، وأيّده في ذلك ياسبرز، على كثيري الكلام من ذوي القدراتِ المتوسّطة الذين يسطّحون كلّ شيء؛ للتخلّص من عبء المسؤوليّة. هؤلاء الحكّاؤون، اختاروا دولًا بعينها لنسجِ أوهامٍ حولها، وإلصاق دراساتٍ، لم تحدث أصلًا، بجامعاتها ومعاهدها، لإثباتِ نظرتهم السّطحيّة للأمور. والسّويد واحدة من أهمّ هذه الدّول التي تحمّلت هراءنا.
الطريف فيما تقدّمهُ هذه الصّفحة، أنّ كثيرًا من مشوراتها مخصّصة لردّ مثلِ هذه الشائعات، وأصبح الحديثُ عن السّويد في وسائل التّواصل الاجتماعي، مسؤوليّة كبيرة، وفخًّا وقعَت فيهِ شخصياتٌ مثل فيصل القاسم وضاحي خلفان وتركي الحمد، وليس الناشطون الشباب فقط، الأمر الذي يدفعني للتفكير في كلّ حرفٍ أكتبهُ في هذه المادّة، أكثر مما فعلتُ يومًا.
ثمّة زاويةٌ مهمّة تفتحُ من خلالها هذه الصّفحة البابَ على مصراعيهِ للبحثِ، ليس فقط في نمط حياة السّويديّين ورفاهيّتهم، بل على أدبٍ مجهولٍ بالنسبةِ لنا، ظلَّ يرتكزُ على الموروثِ القوميّ والفلكلوريّ، حتّى حوّلتهُ أعمالُ بار لاغركفيست (1891-1974)، صاحبُ روايةِ بارباس، لنمطٍ ثقافيّ عميق، يخوضُ في جوانبَ الإنسان المتناقضةِ، ومع ذلك فلم يصلنا منه إلا ما ندر، في الوقتِ الذي نجدُ أنفسنا في أمسِّ الحاجةِ لترجمةِ هذه الأعمال والانفتاحِ على ثقافاتٍ جديدةٍ والاحتكاكِ مع تجارب من سبقونا.
أعترفُ أنهُ في كثيرٍ من الأحيان، تنتابني نوبةُ ضحكٍ هستيريّة، كلّما أفسَدت هذه الصّفحة مُخطّط أحدهم لاستغفالنا وحشوِ المُحتوى العربي بالهُراء، مستخدمًا السّويد لتسويق فكرته الضّحلة، لكنني أيضًا أصبحتُ أقنّنُ متابعةَ منشوراتِها، حرصًا على عدمِ تلقّي المزيد من عوامل الاكتئاب، التي تنتابني كلّما تذكّرتُ أن الفارقَ الجسيمَ بين ما نعيشهُ وما نتمنّاهُ؛ مردّهُ أنّ شعوبًا ترزح منذُ عقودٍ تحتَ نيرِ ظُلمِ قوى الاستعمار تارةً، والأنظمةِ الفاسدةِ التي ورِثتها، ووظّفت الكهنة والمثقّفين لخدمةِ مصالحِها تارةً أخرى.
لا يُمكنُ أن تصل معرفيًا وحضاريًا واقتصاديًا، لنظام حياةٍ رغيدة كالذي تعيشهُ شعوبٌ تحكمُ نفسَها منذ ثلاثينياتِ القرنِ المُنصرم، وتحرصُ على خلقِ توازنٍ بينَ قوى الطّبقات ضمنَ هيكليّة نقابيّة قويّة، كانت ولا تزال، تساومُ الطبقة الرأسماليّة على معدّلاتِ الأجورِ والحقوق الاجتماعيّة، وتنتظمُ حولَ مُثلِ وقيمِ إعادة توزيعِ الثّروات، ونظامِ الضّريبة التصاعديّة، وتخفيضِ التفاوت في الدّخل وتقديم خدمات الرّفاه.