في الحلقة الاخيرة تتابع "العربي الجديد" نشر الفصل الاخير من كتاب "الراوية المفقودة" حيث يسرد نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع تفاصيل قمة جنيف وكواليسها، وكيف عقد الاجتماع بين الرئيسين السوري حافظ الأسد والأميركي بيل كلينتون متأخراً ساعات عن موعده، وكيف انتهى سريعاً بسبب الخلاف حول الخرائط والخطوط.
وصل الرئيس كلينتون جنيف متأخرًا من جولته الآسيوية، ومن ثمّ حدث بالضرورة القليل من التأخير على التوقيت المحدد. في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أي الثالثة فجرًا بتوقيت دمشق، هاتفني الرئيس الأسد إلى غرفتي، وقال إنه لم ينم حتى هذه الساعة، ولذلك فإنه يرغب في مراجعة نقاط الحديث غدًا مع الرئيس كلينتون، وأنا أعرف أنه لا ينام إلا قليلًا ليلة السفر كما كان يخبرني دائمًا في الطائرة. شعرت بالقلق أنه لم ينم البارحة جيدًا ولم ينم حتى الآن، وسيكون الاجتماع المنتظر بعد عدة ساعات فقط، ولا سيما أن صحته ليست على ما يرام.
كان من الواضح أن الضجة في الفندق التي أحدثها وصول الرئيس كلينتون قد أيقظت الرئيس الأسد وربما أيقظت كل نزلاء فندق "إنتركونتيننتال". فالاحتياطات الأمنية كانت كبيرة كما هو متوقع من المطار إلى مصاعد الفندق.
قال لي الرئيس الأسد كان الاتفاق أن تصل طائرته وطائرتنا مساءً بتوقيت متقارب، وكنت أتوقع اللقاء معه في المطار كما قال لي على الهاتف، وتساءل عما إذا كان الترحيب به مناسبًا الآن بعد أن وصل، فنحن كعرب يجب أن نكون كرماء مع القادم الجديد. قلت له ولكنّ الأميركيين لا يفهمون عاداتنا وقد تكون تفسيراتهم مختلفة خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل.
بعد مغادرتي جناح الرئيس لم تشغلني فكرة طغيان التقاليد العربية عليه فهي لا تتناقض مع شخصيته وتفكيره، كما لم تشغلني محبته الشخصية للرئيس كلينتون فهي حقيقية لم يمنحها لأي رئيس أميركي آخر. لقد شغلني أكثر من أي وقت التراجع في وضعه الصحي الذي لا تخطئه العين.
في اليوم التالي طلبني الرئيس إلى جناحه الساعة التاسعة صباح يوم الاجتماع. وجدته في أحسن حال خلافًا لما توقعت. وتحادثنا حتى العاشرة ثم أخبرتنا المراسم أن الرئيس كلينتون قد يتأخر قليلًا عن الموعد المحدد لأنه وصل متأخرًا ليلة أمس. انتظرنا ساعة، ساعتين، ثلاث، أربع ساعات والرئيس الأسد ينتظر لا يتذمر ولا يتململ وينظر من النافذة أحيانًا إلى بحيرة جنيف، ويقول إن الحركة لا بد منها لأنها تنشط الدورة الدموية لدى الإنسان. أبلغته أن دنيس روس عاد من إسرائيل ليضع كلينتون في آخر ما يفكر به باراك، ترى هل التقاه بعد وصوله المتأخر؟ أم التقاه الآن في الصباح قبل الاجتماع؟
أخيرًا أبلغنا بقدوم الرئيس كلينتون حوالي الثالثة بعد الظهر، وأن اللقاء سيقتصر عليهما وعلى وزيري الخارجية أولبرايت والشرع والمترجم عن الجانب الأميركي هلال والمترجمة عن الجانب السوري شعبان. تم اللقاء بين الرئيسين عند المصعد المحدد في الطابق الفارغ المحروس جيدًا الذي سيجري الاجتماع في إحدى صالاته. ظهر الرئيس كلينتون بابتسامة عريضة، وبعد أن صافح الرئيس الأسد قدم له ربطة عنق قال إنه اشتراها من أحد المحلات أثناء تجواله في رحلته الآسيوية هدية للأسد، حيث كان يفكر باللقاء معه في جنيف. كانت ربطة العنق ذات أرضية زرقاء فاقعة رسم عليها رأس أسد كبير ورؤوس لأسود صغيرة. لم ينشرح صدر الرئيس لها فلم ينظر لها طويلًا، ودهشت لهذه الافتتاحية الفاقعة التي لا يمكن للرئيس الأسد أو ابنه أن يهتم بارتدائها فضلًا عن اقتنائها.
دخلنا إلى غرفة اجتماعات واسعة خالية من طاولة الاجتماعات الكبيرة التي كانت في لقاء 1994. جلس الرئيسان على مقعدين متجاورين وجلس بجانب كل منهما وزيرا الخارجية والمترجمين. فوجئ الرئيس الأسد بوجود دنيس روس يهم بالجلوس بيننا، فالتفت إلى الرئيس كلينتون وقال له كان الاتفاق أن يقتصر الاجتماع على الوزيرة أولبرايت والوزير الشرع. علق كلينتون بأن دنيس سيغادر حالًا الاجتماع بعد أن يعرض عليكم خريطة للجولان بذل جهدًا كبيرًا في إعدادها مع الآخرين، وأضاف أنه سيدخل في الموضوع مباشرة، وأنه كان للتو على اتصال هاتفي مع باراك رئيس حكومة إسرائيل الذي أبدى مرونة وتفهمًا لمطالبكم، فهو على استعداد لإعادة كل الجولان باستثناء شريط يبعد عن بحيرة طبريا حوالي 500 م فقط وربما 400 م حسب ما تتفقون عليه.
كان الرئيس الأسد يصغي باهتمام حتى اللحظة، لكنه هنا قاطع الرئيس كلينتون، ولم يرغب في المناقشة كعادته وقال بغضب هادئ: "هم لا يريدون السلام". أكمل الرئيس كلينتون بعد أن نظر إلى قصاصة من الورق بين يديه مضيفًا بأن باراك يعرف تمسك سورية بأراضيها كلها، ولكنه لا يستطيع التخلي عن هذا الشريط الضيق وسيعطيكم بدلًا منه أرضًا بنفس المساحة وربما أكثر في الجنوب من هنا، وأشار إلى دنيس روس الذي ظل واقفًا بنصف انحناءة وطلب منه نشر الخريطة فوق طاولة تتوسط الرئيسين. قال روس إن هذه الخريطة مأخوذة من الجو لكامل المنطقة؛ الجولان وشمال نهر الأردن والبحيرة إبان حرب 1967، وهي خريطة واقعية في غاية الدقة ليست كخريطة "هوف" الافتراضية التي ألف كتابًا عنها فريدريك هوف وهو من الدبلوماسيين الأميركيين المهتمين بمنطقة الجولان: حدود 1923، وخط اتفاقية الهدنة عام 1949، وخط الرابع من حزيران/ يونيو 1967 ونقاط التلاقي والتباعد بين هذه الخطوط.
نظرت بسرعة إلى خريطة روس فلم أميز فيها خط 4 حزيران/يونيو 1967 الذي كان هو نفسه قد أبلغه للرئيس سرًا في عام 1993 ثم بعدها بحضوري مع وارن كريستوفر عام 1994. كان الغموض في الخطوط والمواقع التي عرضها روس في خريطته ذات ألوان متداخلة بين الكحلي الغامق والأزرق الداكن والصخري الأسود، لا علامات فارقة ولا مواقع محددة ولا خطوط واضحة ولا أسماء لقرى وبلدات معروفة في ذلك التاريخ.
لم يكن لدى الرئيس الأسد حتى الحد الأدنى من الفضول للنظر في هذه الخريطة، وهو الطيار الذي يعرف كيف كانت تؤخذ الصور من الجو عام 1967؛ فالموضوع بالنسبة إليه ليس صورة البحيرة من الجو وإنما هي حياته بالذات التي عاشها ورفاقه على الأرض، وعلى شاطئ البحيرة استحم في مائها ويحن ليراها.
حاول كلينتون استعادة اهتمام الأسد بما كان يقرأه، فلم يفلح بعد مرور دقائق معدودة لم تمكنه من أن يتطرق خلالها إلى المواضيع الأخرى المهمة للجانبين كالأمن المتبادل والعلاقات ومحطات المراقبة. لكن الرئيس الأسد فقد الاهتمام بعد أن تأكد أنهم يريدون من السوريين ألا يقتربوا من مياه البحيرة بأي شكل من الأشكال، عندها ادعى كلينتون بأن الوزير الشرع قد قبل في شيبردزتاون ما يطرحه الآن.
لم أستطع إلا أن أقاطع الرئيس كلينتون من دون استئذان لأذكره بمناقشاتنا في البيت الأبيض وشيبردزتاون، والسياق الذي وردت فيه هذه المناقشات وأني لم أتطرق بشكل من الأشكال لا معه ولا مع أولبرايت إلى أية أمتار تبعدنا عن البحيرة. وذكّرته بأنه هو الذي تطرق إلى خط 1923 والعشرة أمتار ولست أنا. قال ولكنك وافقت بأن السيادة السورية على كامل الأرض والسيادة الكاملة على البحيرة لإسرائيل، أجبت ولكن كيف يمكن تحقيق السيادة على نهاية خط الانسحاب في 4 حزيران/يونيو كاملة من دون أن نلامس مياه البحيرة؟ وأنت يا سيادة الرئيس كنت تؤكد لي أن السيادة السورية ستكون كاملة على أراضي الجولان حتى خط الرابع من حزيران/يونيو، في وقتٍ ترى أن الإسرائيليين لن يتخلوا عن البحيرة في أي اتفاق؟
قاطعتني أولبرايت التي لاحظت أن النقاش احتد أكثر مما يجب، وقالت لي دع الرئيس يتابع كلامه حتى النهاية. لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للرئيس كلينتون الذي أقر برسالة موقعة مع الرئيس الأسد أن وديعة رابين في جيبه منذ سنوات، وأن باراك نفسه لم يطلب منه سحبها، يمكن أن يقوم كوسيط نزيه بعدم الاعتراف بها وتغيير خط الانسحاب بمئات الأمتار. ربما كان احتدادي في مخاطبة كلينتون بهذه اللهجة سببًا لإقدام أولبرايت على كتابة "أرجوك ألا تقاطع الرئيس" على قصاصة ورق وتسليمها لي؛ محاولةً التخفيف من وقع الصدمة التي أحدثها رئيسها في مطلع الاجتماع.
ربما انطلق الرئيس كلينتون من اعتقاده بأن وضع الرئيس الأسد الصحي قد يسمح له بتمرير ما نقله باسم وزير خارجية سورية من دون اعتراض يذكر، نظرًا للثقة بين الرئيس الأسد ووزير خارجيته المستمرة لعقود من الزمن. أو ربما انطلق من ميكيافيلية سياسية أراد منها أن يمارس تكتيكًا سياسيًا تعلمه في نهاية حكمه، بعد أن خاض امتحانات قاسية وخضع لضغوط متنوعة قد لا تتوقف حتى بعد مغادرته البيت الأبيض، خصوصًا عندما أيقن بأن المحاور السوري الذي يجلس إلى جانبه الآن قد لا يكون المحاور الذي سيتابع معه اتفاق السلام.
كان على كلينتون بمساعدة دنيس روس - الذي لا يستغني عنه الإسرائيليون ولا الأميركيون سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين - أن يقبل اقتراح الأسد بأن يستمر الأميركيون بمتابعة الموضوع في غرفة أخرى تجمع أولبرايت والشرع وروس والآخرين، ليس لأن صحة الرئيس الأسد لا تسمح له بذلك على الرغم من أنهم أرهقوه قبل بدء اللقاء؛ بل لأنه يثق بدور فاروق الشرع في قيادة عملية السلام من الألف إلى الياء.
ذهبنا إلى غرفة مجاورة بتثاقل واضح. أكمل روس بحضور أولبرايت ما كان قد بدأه كلينتون، ولم يرفع رأسه عن حزمة من الورق كانت بين يديه. قلت له لا تتابع يبدو أن ما ستقرأه طويل، ويحتاج إلى نقاش أطول، الأفضل أن تسلم بثينة شعبان نسخة مما تريد إبلاغنا به. وافقت أولبرايت على اقتراحي لكن لم يلتزم روس ما وعد به، فلم يسلم الدكتورة شعبان شيئًا. كما لم يقبل بمشروع بيان صحافي مقتضب كانت أولبرايت قد وافقت عليه لكي يترك المجال لتحميل سورية فشل اللقاء. وبالفعل حمّل كلينتون بعد لقائه الرئيس المصري مبارك في واشنطن المسؤولية عن فشل قمة جنيف إلى الرئيس الأسد، عندما قال "إن الكرة في ملعبه الآن". لكنه تراجع بعد ذلك في مذكراته "حياتي" واعتبر أن باراك قد خيب أمله لأنه لم يفصح له عن نياته مسبقًا في مفاوضاته مع السوريين.
الحقيقة أن الرئيس كلينتون لم يذكر أمامي خط 1923 إلا مرة واحدة أثناء لقائي معه بناءً على طلبه في البيت الأبيض، ولم يذكر لي أو للرئيس الأسد في اتصالات أو لقاءات سابقة شيئًا بأن "الوديعة" التي في جيبه لا تعني الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى خط 4 حزيران/يونيو 1967. ولذلك فإنني اعتبرت إشارة كلينتون إلى خط 1923 والعشرة أمتار حينها إنما كانت من باب التمرين الذهني لا أكثر ولا أقل. وعلى هذا الأساس قلت له حتى لو افترضنا جدلًا أن هذه العشرة أمتار التي يريدها باراك كطريق سباق سيارات لن تسمح له بوجود عربة أخرى إذا تعطلت أو تطلب الأمر رفعها عن الطريق. كيف لرجل عاقل ومنفتح الذهن كما يزعم البعض عن باراك أن يتصور بأن سكان الجولان السوريين عندما يعودون إلى المناطق التي كانوا فيها في 4 حزيران/يونيو 1976 سيقبلون بالوقوف عند العشرة أمتار، ويكتفون بالنظر إلى بحيرة طبريا نظرة رومانسية وشاعرية تشبه قصيدة "البحيرة" التي كتبها لامارتين من دون أن يلامسوها ويرووا بساتينهم من مائها. وهل فعلًا كان يفكر البطل المغوار باراك أن يكون المستوطنون في الجولان من المؤيدين لانسحابه من الجولان؟
في الطائرة في طريق العودة من جنيف إلى دمشق يوم 27 آذار/مارس قيّمنا ما حدث بعد فترة صمت ليست قصيرة. كانت الطائرة قد أخذت بارتفاعها الطبيعي بعد الإقلاع، وأصبحت محركات الطائرة أقل ضجة وجناحاها أكثر استقرارًا. كان جوهر التقييم في مفهوم "الرواية القصيرة" أن "اللعبة الكبرى" التي بدأها الإسرائيليون "كدعاة سلام" والأميركيون "كوسطاء نزيهين" قد انتهت وانكشفت.
كان لسورية ما يبرر لها اتخاذ السلام خيارًا إستراتيجيًا؛ فالاتحاد السوفييتي انهار منذ مطلع التسعينيات، ولا ظهيرَ مصريًا أو عربيًا منذ معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ولا عمقَ إستراتيجيًا مع العراق منذ انهيار الميثاق القومي وما أعقبه من حروب عبثية مع إيران والكويت، ولا أثر يذكر لإعلان دمشق بعد أن ألغي الشق الأمني منه بطلب ملكي. هذا تاريخ حقيقي لا يجوز التلاعب به. على الرغم من كل ذلك، فالمستوطنون الإسرائيليون الذين سرقوا أرض السوريين لن يشعروا بالأمان أبدًا، وهذه أيضًا حقيقة لا يجوز إخفاؤها.
بعد هذا التفكير بصوت عالٍ، قلت للرئيس الأسد أنا أفهم لمَ يستمر الإسرائيليون بخداع أنفسهم ومحاولة كسر إرادة الآخرين، لكن لا أفهم لمَ تمر هذه الخديعة على أكبر وأقوى دولة في العالم فتلفق وتكذب من دون مبرر أو مصلحة، علق الرئيس الأسد بابتسامة مليئة بالمرارة قائلًا: وهل تستطيع الدول الصغرى كالدول الكبرى أن تخدع وتكذب؟ ليس لدي أدنى شك في رغبة الرئيس كلينتون في إيصال سورية وإسرائيل إلى اتفاق سلام برعايته، بغض النظر عن تقييم هذا الاتفاق كإنجاز يستحق جائزة نوبل عليه، أو كعمل تاريخي كبير سيترك بصماته في أرجاء المنطقة والعالم، لكنه يخشى مما سيدبره له الإسرائيليون في المستقبل.
لكني من جهة أخرى أخذت على الرئيس كلينتون على الرغم من ذكائه وامتلاكه قدرات شخصية وسلطة مؤثرة بحجم بلاده، ألا يحسن إدارة حوار وإيصاله إلى الهدف المنطقي المطلوب، ولا سيما بعد سنوات وشهور وساعات من الاجتماعات والاتصالات أمضاها مع المعنيين في الجانبين للوصول إلى اتفاق مبني على معادلة الأرض مقابل السلام. والسؤال الجوهري في هذه المعادلة المبني على حسن النية وقوة المنطق وليس على سوء النية ومنطق القدرة هو: كيف يمكن تحقيق الانسحاب الإسرائيلي إلى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967 من دون ملامسة مياه بحيرة طبرية؟ وبمعنى أوضح كيف يمكن لإسرائيل الادعاء بسيادة كاملة على بحيرة طبريا، وكأن شاطئها في قسمها الشمالي الشرقي يجاور الفضاء وليس الدولة السورية؟ وبمعنى أكثر واقعية كيف يمكن الامتناع عن رسم حدود الرابع من حزيران/يونيو بجهد خبراء من الجانبين، والادعاء من الطرف المتمنّع أنه جاد في استئناف المفاوضات والوصول إلى اتفاق سلام؟
كنت أتمنى على الرئيس كلينتون أن يأخذ هذا السؤال إلى باراك ويستمع إلى جوابه عنه ثم بعدها يدعو الرئيس الأسد إلى قمة جنيف إذا وجد حسن نية عند باراك وقوة منطق، ولا علاقة لمرض الأسد أو قوة عضلاته بفشل الاجتماع أو بنجاحه ولا بخريطة روس ومذكراته التي ساهمت بإضاعة السلام.
تداعيات فشل قمة جنيف
أحدث فشل قمة جنيف قلقًا لدى الاتحاد الأوروبي، فلبيت بناءً على طلب سفرائهم بدمشق دعوتهم إلى غداء عمل بتاريخ 30 آذار/مارس 2000 تحدثنا فيه عما جرى في قمة الرئيسين الأسد وكلينتون، وتأثير ذلك في مستقبل عملية السلام في المنطقة. طرحوا أسئلة عديدة تنم عن تخوف البعض من تداعيات الفشل على استقرار لبنان وأمن المنطقة، وفضول البعض الآخر لمعرفة تفاصيل اللقاء في جنيف لكي يردوا على تساؤلات بروكسل والعواصم الأوروبية.
زارتنا وفود عديدة كان من بين أهمها زيارة رئيس وزراء كندا جان كريتيان بتاريخ 18 نيسان/أبريل، ولقاؤه مع الرئيس حافظ الأسد في جلسة طويلة نسبيًا طرح خلالها اقتراحًا – رآه من زاويته ومن وحي دور كندا كأكبر مساهم في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في العالم – أن تقبل سورية وإسرائيل تحويل المناطق المجردة حول شاطئ بحيرة طبريا إلى محمية طبيعية وسياحية لا مثيل لها في العالم، وكان جوابنا لنعرف أولًا حدود المناطق المجردة ثم نفكر في المحميات الطبيعية. كما زارنا في منتصف أيار/مايو 2000 الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وتبعه كمال خرازي وزير خارجية إيران والوزير يوسف بن علوي، وبعدها بأيام التقى الرئيس الأسد مع الرئيس مبارك في القاهرة، وأعقب ذلك زيارة لدمشق من العاهل الأردني عبد الله الثاني يوم 21 أيار/مايو 2000، لكن السلام كان مختفيًا وراء الآفاق الداكنة مهما تعددت الزيارات.
وصل الرئيس كلينتون جنيف متأخرًا من جولته الآسيوية، ومن ثمّ حدث بالضرورة القليل من التأخير على التوقيت المحدد. في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أي الثالثة فجرًا بتوقيت دمشق، هاتفني الرئيس الأسد إلى غرفتي، وقال إنه لم ينم حتى هذه الساعة، ولذلك فإنه يرغب في مراجعة نقاط الحديث غدًا مع الرئيس كلينتون، وأنا أعرف أنه لا ينام إلا قليلًا ليلة السفر كما كان يخبرني دائمًا في الطائرة. شعرت بالقلق أنه لم ينم البارحة جيدًا ولم ينم حتى الآن، وسيكون الاجتماع المنتظر بعد عدة ساعات فقط، ولا سيما أن صحته ليست على ما يرام.
كان من الواضح أن الضجة في الفندق التي أحدثها وصول الرئيس كلينتون قد أيقظت الرئيس الأسد وربما أيقظت كل نزلاء فندق "إنتركونتيننتال". فالاحتياطات الأمنية كانت كبيرة كما هو متوقع من المطار إلى مصاعد الفندق.
قال لي الرئيس الأسد كان الاتفاق أن تصل طائرته وطائرتنا مساءً بتوقيت متقارب، وكنت أتوقع اللقاء معه في المطار كما قال لي على الهاتف، وتساءل عما إذا كان الترحيب به مناسبًا الآن بعد أن وصل، فنحن كعرب يجب أن نكون كرماء مع القادم الجديد. قلت له ولكنّ الأميركيين لا يفهمون عاداتنا وقد تكون تفسيراتهم مختلفة خاصة في هذا الوقت المتأخر من الليل.
بعد مغادرتي جناح الرئيس لم تشغلني فكرة طغيان التقاليد العربية عليه فهي لا تتناقض مع شخصيته وتفكيره، كما لم تشغلني محبته الشخصية للرئيس كلينتون فهي حقيقية لم يمنحها لأي رئيس أميركي آخر. لقد شغلني أكثر من أي وقت التراجع في وضعه الصحي الذي لا تخطئه العين.
في اليوم التالي طلبني الرئيس إلى جناحه الساعة التاسعة صباح يوم الاجتماع. وجدته في أحسن حال خلافًا لما توقعت. وتحادثنا حتى العاشرة ثم أخبرتنا المراسم أن الرئيس كلينتون قد يتأخر قليلًا عن الموعد المحدد لأنه وصل متأخرًا ليلة أمس. انتظرنا ساعة، ساعتين، ثلاث، أربع ساعات والرئيس الأسد ينتظر لا يتذمر ولا يتململ وينظر من النافذة أحيانًا إلى بحيرة جنيف، ويقول إن الحركة لا بد منها لأنها تنشط الدورة الدموية لدى الإنسان. أبلغته أن دنيس روس عاد من إسرائيل ليضع كلينتون في آخر ما يفكر به باراك، ترى هل التقاه بعد وصوله المتأخر؟ أم التقاه الآن في الصباح قبل الاجتماع؟
أخيرًا أبلغنا بقدوم الرئيس كلينتون حوالي الثالثة بعد الظهر، وأن اللقاء سيقتصر عليهما وعلى وزيري الخارجية أولبرايت والشرع والمترجم عن الجانب الأميركي هلال والمترجمة عن الجانب السوري شعبان. تم اللقاء بين الرئيسين عند المصعد المحدد في الطابق الفارغ المحروس جيدًا الذي سيجري الاجتماع في إحدى صالاته. ظهر الرئيس كلينتون بابتسامة عريضة، وبعد أن صافح الرئيس الأسد قدم له ربطة عنق قال إنه اشتراها من أحد المحلات أثناء تجواله في رحلته الآسيوية هدية للأسد، حيث كان يفكر باللقاء معه في جنيف. كانت ربطة العنق ذات أرضية زرقاء فاقعة رسم عليها رأس أسد كبير ورؤوس لأسود صغيرة. لم ينشرح صدر الرئيس لها فلم ينظر لها طويلًا، ودهشت لهذه الافتتاحية الفاقعة التي لا يمكن للرئيس الأسد أو ابنه أن يهتم بارتدائها فضلًا عن اقتنائها.
دخلنا إلى غرفة اجتماعات واسعة خالية من طاولة الاجتماعات الكبيرة التي كانت في لقاء 1994. جلس الرئيسان على مقعدين متجاورين وجلس بجانب كل منهما وزيرا الخارجية والمترجمين. فوجئ الرئيس الأسد بوجود دنيس روس يهم بالجلوس بيننا، فالتفت إلى الرئيس كلينتون وقال له كان الاتفاق أن يقتصر الاجتماع على الوزيرة أولبرايت والوزير الشرع. علق كلينتون بأن دنيس سيغادر حالًا الاجتماع بعد أن يعرض عليكم خريطة للجولان بذل جهدًا كبيرًا في إعدادها مع الآخرين، وأضاف أنه سيدخل في الموضوع مباشرة، وأنه كان للتو على اتصال هاتفي مع باراك رئيس حكومة إسرائيل الذي أبدى مرونة وتفهمًا لمطالبكم، فهو على استعداد لإعادة كل الجولان باستثناء شريط يبعد عن بحيرة طبريا حوالي 500 م فقط وربما 400 م حسب ما تتفقون عليه.
كان الرئيس الأسد يصغي باهتمام حتى اللحظة، لكنه هنا قاطع الرئيس كلينتون، ولم يرغب في المناقشة كعادته وقال بغضب هادئ: "هم لا يريدون السلام". أكمل الرئيس كلينتون بعد أن نظر إلى قصاصة من الورق بين يديه مضيفًا بأن باراك يعرف تمسك سورية بأراضيها كلها، ولكنه لا يستطيع التخلي عن هذا الشريط الضيق وسيعطيكم بدلًا منه أرضًا بنفس المساحة وربما أكثر في الجنوب من هنا، وأشار إلى دنيس روس الذي ظل واقفًا بنصف انحناءة وطلب منه نشر الخريطة فوق طاولة تتوسط الرئيسين. قال روس إن هذه الخريطة مأخوذة من الجو لكامل المنطقة؛ الجولان وشمال نهر الأردن والبحيرة إبان حرب 1967، وهي خريطة واقعية في غاية الدقة ليست كخريطة "هوف" الافتراضية التي ألف كتابًا عنها فريدريك هوف وهو من الدبلوماسيين الأميركيين المهتمين بمنطقة الجولان: حدود 1923، وخط اتفاقية الهدنة عام 1949، وخط الرابع من حزيران/ يونيو 1967 ونقاط التلاقي والتباعد بين هذه الخطوط.
نظرت بسرعة إلى خريطة روس فلم أميز فيها خط 4 حزيران/يونيو 1967 الذي كان هو نفسه قد أبلغه للرئيس سرًا في عام 1993 ثم بعدها بحضوري مع وارن كريستوفر عام 1994. كان الغموض في الخطوط والمواقع التي عرضها روس في خريطته ذات ألوان متداخلة بين الكحلي الغامق والأزرق الداكن والصخري الأسود، لا علامات فارقة ولا مواقع محددة ولا خطوط واضحة ولا أسماء لقرى وبلدات معروفة في ذلك التاريخ.
لم يكن لدى الرئيس الأسد حتى الحد الأدنى من الفضول للنظر في هذه الخريطة، وهو الطيار الذي يعرف كيف كانت تؤخذ الصور من الجو عام 1967؛ فالموضوع بالنسبة إليه ليس صورة البحيرة من الجو وإنما هي حياته بالذات التي عاشها ورفاقه على الأرض، وعلى شاطئ البحيرة استحم في مائها ويحن ليراها.
حاول كلينتون استعادة اهتمام الأسد بما كان يقرأه، فلم يفلح بعد مرور دقائق معدودة لم تمكنه من أن يتطرق خلالها إلى المواضيع الأخرى المهمة للجانبين كالأمن المتبادل والعلاقات ومحطات المراقبة. لكن الرئيس الأسد فقد الاهتمام بعد أن تأكد أنهم يريدون من السوريين ألا يقتربوا من مياه البحيرة بأي شكل من الأشكال، عندها ادعى كلينتون بأن الوزير الشرع قد قبل في شيبردزتاون ما يطرحه الآن.
لم أستطع إلا أن أقاطع الرئيس كلينتون من دون استئذان لأذكره بمناقشاتنا في البيت الأبيض وشيبردزتاون، والسياق الذي وردت فيه هذه المناقشات وأني لم أتطرق بشكل من الأشكال لا معه ولا مع أولبرايت إلى أية أمتار تبعدنا عن البحيرة. وذكّرته بأنه هو الذي تطرق إلى خط 1923 والعشرة أمتار ولست أنا. قال ولكنك وافقت بأن السيادة السورية على كامل الأرض والسيادة الكاملة على البحيرة لإسرائيل، أجبت ولكن كيف يمكن تحقيق السيادة على نهاية خط الانسحاب في 4 حزيران/يونيو كاملة من دون أن نلامس مياه البحيرة؟ وأنت يا سيادة الرئيس كنت تؤكد لي أن السيادة السورية ستكون كاملة على أراضي الجولان حتى خط الرابع من حزيران/يونيو، في وقتٍ ترى أن الإسرائيليين لن يتخلوا عن البحيرة في أي اتفاق؟
الشرع مع وزيرة خارجية الولايات المتحدة أولبريت في جنيف |
قاطعتني أولبرايت التي لاحظت أن النقاش احتد أكثر مما يجب، وقالت لي دع الرئيس يتابع كلامه حتى النهاية. لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن للرئيس كلينتون الذي أقر برسالة موقعة مع الرئيس الأسد أن وديعة رابين في جيبه منذ سنوات، وأن باراك نفسه لم يطلب منه سحبها، يمكن أن يقوم كوسيط نزيه بعدم الاعتراف بها وتغيير خط الانسحاب بمئات الأمتار. ربما كان احتدادي في مخاطبة كلينتون بهذه اللهجة سببًا لإقدام أولبرايت على كتابة "أرجوك ألا تقاطع الرئيس" على قصاصة ورق وتسليمها لي؛ محاولةً التخفيف من وقع الصدمة التي أحدثها رئيسها في مطلع الاجتماع.
ربما انطلق الرئيس كلينتون من اعتقاده بأن وضع الرئيس الأسد الصحي قد يسمح له بتمرير ما نقله باسم وزير خارجية سورية من دون اعتراض يذكر، نظرًا للثقة بين الرئيس الأسد ووزير خارجيته المستمرة لعقود من الزمن. أو ربما انطلق من ميكيافيلية سياسية أراد منها أن يمارس تكتيكًا سياسيًا تعلمه في نهاية حكمه، بعد أن خاض امتحانات قاسية وخضع لضغوط متنوعة قد لا تتوقف حتى بعد مغادرته البيت الأبيض، خصوصًا عندما أيقن بأن المحاور السوري الذي يجلس إلى جانبه الآن قد لا يكون المحاور الذي سيتابع معه اتفاق السلام.
كان على كلينتون بمساعدة دنيس روس - الذي لا يستغني عنه الإسرائيليون ولا الأميركيون سواء أكانوا جمهوريين أم ديمقراطيين - أن يقبل اقتراح الأسد بأن يستمر الأميركيون بمتابعة الموضوع في غرفة أخرى تجمع أولبرايت والشرع وروس والآخرين، ليس لأن صحة الرئيس الأسد لا تسمح له بذلك على الرغم من أنهم أرهقوه قبل بدء اللقاء؛ بل لأنه يثق بدور فاروق الشرع في قيادة عملية السلام من الألف إلى الياء.
ذهبنا إلى غرفة مجاورة بتثاقل واضح. أكمل روس بحضور أولبرايت ما كان قد بدأه كلينتون، ولم يرفع رأسه عن حزمة من الورق كانت بين يديه. قلت له لا تتابع يبدو أن ما ستقرأه طويل، ويحتاج إلى نقاش أطول، الأفضل أن تسلم بثينة شعبان نسخة مما تريد إبلاغنا به. وافقت أولبرايت على اقتراحي لكن لم يلتزم روس ما وعد به، فلم يسلم الدكتورة شعبان شيئًا. كما لم يقبل بمشروع بيان صحافي مقتضب كانت أولبرايت قد وافقت عليه لكي يترك المجال لتحميل سورية فشل اللقاء. وبالفعل حمّل كلينتون بعد لقائه الرئيس المصري مبارك في واشنطن المسؤولية عن فشل قمة جنيف إلى الرئيس الأسد، عندما قال "إن الكرة في ملعبه الآن". لكنه تراجع بعد ذلك في مذكراته "حياتي" واعتبر أن باراك قد خيب أمله لأنه لم يفصح له عن نياته مسبقًا في مفاوضاته مع السوريين.
الحقيقة أن الرئيس كلينتون لم يذكر أمامي خط 1923 إلا مرة واحدة أثناء لقائي معه بناءً على طلبه في البيت الأبيض، ولم يذكر لي أو للرئيس الأسد في اتصالات أو لقاءات سابقة شيئًا بأن "الوديعة" التي في جيبه لا تعني الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى خط 4 حزيران/يونيو 1967. ولذلك فإنني اعتبرت إشارة كلينتون إلى خط 1923 والعشرة أمتار حينها إنما كانت من باب التمرين الذهني لا أكثر ولا أقل. وعلى هذا الأساس قلت له حتى لو افترضنا جدلًا أن هذه العشرة أمتار التي يريدها باراك كطريق سباق سيارات لن تسمح له بوجود عربة أخرى إذا تعطلت أو تطلب الأمر رفعها عن الطريق. كيف لرجل عاقل ومنفتح الذهن كما يزعم البعض عن باراك أن يتصور بأن سكان الجولان السوريين عندما يعودون إلى المناطق التي كانوا فيها في 4 حزيران/يونيو 1976 سيقبلون بالوقوف عند العشرة أمتار، ويكتفون بالنظر إلى بحيرة طبريا نظرة رومانسية وشاعرية تشبه قصيدة "البحيرة" التي كتبها لامارتين من دون أن يلامسوها ويرووا بساتينهم من مائها. وهل فعلًا كان يفكر البطل المغوار باراك أن يكون المستوطنون في الجولان من المؤيدين لانسحابه من الجولان؟
في الطائرة في طريق العودة من جنيف إلى دمشق يوم 27 آذار/مارس قيّمنا ما حدث بعد فترة صمت ليست قصيرة. كانت الطائرة قد أخذت بارتفاعها الطبيعي بعد الإقلاع، وأصبحت محركات الطائرة أقل ضجة وجناحاها أكثر استقرارًا. كان جوهر التقييم في مفهوم "الرواية القصيرة" أن "اللعبة الكبرى" التي بدأها الإسرائيليون "كدعاة سلام" والأميركيون "كوسطاء نزيهين" قد انتهت وانكشفت.
كان لسورية ما يبرر لها اتخاذ السلام خيارًا إستراتيجيًا؛ فالاتحاد السوفييتي انهار منذ مطلع التسعينيات، ولا ظهيرَ مصريًا أو عربيًا منذ معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، ولا عمقَ إستراتيجيًا مع العراق منذ انهيار الميثاق القومي وما أعقبه من حروب عبثية مع إيران والكويت، ولا أثر يذكر لإعلان دمشق بعد أن ألغي الشق الأمني منه بطلب ملكي. هذا تاريخ حقيقي لا يجوز التلاعب به. على الرغم من كل ذلك، فالمستوطنون الإسرائيليون الذين سرقوا أرض السوريين لن يشعروا بالأمان أبدًا، وهذه أيضًا حقيقة لا يجوز إخفاؤها.
بعد هذا التفكير بصوت عالٍ، قلت للرئيس الأسد أنا أفهم لمَ يستمر الإسرائيليون بخداع أنفسهم ومحاولة كسر إرادة الآخرين، لكن لا أفهم لمَ تمر هذه الخديعة على أكبر وأقوى دولة في العالم فتلفق وتكذب من دون مبرر أو مصلحة، علق الرئيس الأسد بابتسامة مليئة بالمرارة قائلًا: وهل تستطيع الدول الصغرى كالدول الكبرى أن تخدع وتكذب؟ ليس لدي أدنى شك في رغبة الرئيس كلينتون في إيصال سورية وإسرائيل إلى اتفاق سلام برعايته، بغض النظر عن تقييم هذا الاتفاق كإنجاز يستحق جائزة نوبل عليه، أو كعمل تاريخي كبير سيترك بصماته في أرجاء المنطقة والعالم، لكنه يخشى مما سيدبره له الإسرائيليون في المستقبل.
لكني من جهة أخرى أخذت على الرئيس كلينتون على الرغم من ذكائه وامتلاكه قدرات شخصية وسلطة مؤثرة بحجم بلاده، ألا يحسن إدارة حوار وإيصاله إلى الهدف المنطقي المطلوب، ولا سيما بعد سنوات وشهور وساعات من الاجتماعات والاتصالات أمضاها مع المعنيين في الجانبين للوصول إلى اتفاق مبني على معادلة الأرض مقابل السلام. والسؤال الجوهري في هذه المعادلة المبني على حسن النية وقوة المنطق وليس على سوء النية ومنطق القدرة هو: كيف يمكن تحقيق الانسحاب الإسرائيلي إلى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967 من دون ملامسة مياه بحيرة طبرية؟ وبمعنى أوضح كيف يمكن لإسرائيل الادعاء بسيادة كاملة على بحيرة طبريا، وكأن شاطئها في قسمها الشمالي الشرقي يجاور الفضاء وليس الدولة السورية؟ وبمعنى أكثر واقعية كيف يمكن الامتناع عن رسم حدود الرابع من حزيران/يونيو بجهد خبراء من الجانبين، والادعاء من الطرف المتمنّع أنه جاد في استئناف المفاوضات والوصول إلى اتفاق سلام؟
كنت أتمنى على الرئيس كلينتون أن يأخذ هذا السؤال إلى باراك ويستمع إلى جوابه عنه ثم بعدها يدعو الرئيس الأسد إلى قمة جنيف إذا وجد حسن نية عند باراك وقوة منطق، ولا علاقة لمرض الأسد أو قوة عضلاته بفشل الاجتماع أو بنجاحه ولا بخريطة روس ومذكراته التي ساهمت بإضاعة السلام.
تداعيات فشل قمة جنيف
أحدث فشل قمة جنيف قلقًا لدى الاتحاد الأوروبي، فلبيت بناءً على طلب سفرائهم بدمشق دعوتهم إلى غداء عمل بتاريخ 30 آذار/مارس 2000 تحدثنا فيه عما جرى في قمة الرئيسين الأسد وكلينتون، وتأثير ذلك في مستقبل عملية السلام في المنطقة. طرحوا أسئلة عديدة تنم عن تخوف البعض من تداعيات الفشل على استقرار لبنان وأمن المنطقة، وفضول البعض الآخر لمعرفة تفاصيل اللقاء في جنيف لكي يردوا على تساؤلات بروكسل والعواصم الأوروبية.
زارتنا وفود عديدة كان من بين أهمها زيارة رئيس وزراء كندا جان كريتيان بتاريخ 18 نيسان/أبريل، ولقاؤه مع الرئيس حافظ الأسد في جلسة طويلة نسبيًا طرح خلالها اقتراحًا – رآه من زاويته ومن وحي دور كندا كأكبر مساهم في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في العالم – أن تقبل سورية وإسرائيل تحويل المناطق المجردة حول شاطئ بحيرة طبريا إلى محمية طبيعية وسياحية لا مثيل لها في العالم، وكان جوابنا لنعرف أولًا حدود المناطق المجردة ثم نفكر في المحميات الطبيعية. كما زارنا في منتصف أيار/مايو 2000 الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وتبعه كمال خرازي وزير خارجية إيران والوزير يوسف بن علوي، وبعدها بأيام التقى الرئيس الأسد مع الرئيس مبارك في القاهرة، وأعقب ذلك زيارة لدمشق من العاهل الأردني عبد الله الثاني يوم 21 أيار/مايو 2000، لكن السلام كان مختفيًا وراء الآفاق الداكنة مهما تعددت الزيارات.