مستعيراً لغة المتصوّفة، وإرث الحوزة المعرفي، يحفر أستاذ الفلسفة الإسلامية العراقي عبد الجبّار الرفاعي في كتابه "الدين والظمأ الأنطولوجي" الصادر حديثاً عن دار "التنوير" و"مركز دراسات فلسفة الدين"، لبيان الفهم الأيديولوجي والأنطولوجي للدين الإسلامي.
يفتتح الرفاعي بحثه بعدة شروحات في حاجة الكائن البشري للمقدّس الذي يقدّمه الدين، غير أن "الصياغة الأيديولوجية" التي وضعت الدين في مأزق تاريخيّ، واحتكرت أنظمة "إنتاج المعنى"، خفّضت طاقة هذا المقدّس، وعملت على خلق "الشخصيّة المستعارة"، حيث يكون التعامل مع الفرد بوصفه عنصراً يذوب في الجماعة، من خلال انصهار الذات بالمجموع.
تظهر أدوات الرفاعي في الفصل الثاني من الكتاب، والمعنون بـ "نسيان الذات"، مرتكزة على أدبيات الصوفي أبو يزيد البسطامي، حيث وعي العالم يبدأ بوعي الذات الفردية، وقبول العالم يبدأ بقبول الذات الفردية أيضاً، سيّان في الإيمان والإلحاد؛ مقابل، أن "الكلام الكثير عن الدين والتبشير به يفضي إلى نتائج منافية لروح الدين العميق"، وبتعبير كييرغارد "الانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين"، وبتعبير ابن عربي "قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات".
يلجأ الرفاعي إلى تقديم شيءٍ من سيرته في أحد فصول الكتاب، تحديداً ما يتعلق منها بالعقود الأربعة التي أمضاها في حوزة قُم ثم النّجف كتهيئة للدخول في نقد أيديولوجيا "الحوزة"، متخذاً المفكّر الإيراني علي شريعتي في الفصل الثالث مثالاً لمن نقلوا الدين من الحال الأول إلى الثاني (من الأنطولوجي إلى الأيديولوجي).
بالتوازي مع ذلك، يتناول الباحث اتجاهات التفكير الديني المعاصرة في إيران بغية التمكّن من تحديد فكر شريعتي؛ اتجاهات تمثلت بواحدٍ تقليدي ما زال مهيمناً وهو امتداد للتقاليد في الحوزة، وآخر إحيائيّ يستلهم الميراث العقلي متوكئاً على آثار مولا صدرا الشيرازي ومرجعياته عند ابن عربي متمثّلة في "حلقة قُم الفلسفية" التي أسّسها محمد حسين الطبطبائي في محاولة لإنتاج نص فلسفي مكثّف يستعيد مقولات الفلاسفة المسلمين وينفتح على آفاق الفلسفة الغربية الحديثة، إضافة إلى هذا التيار كانت المدرسة التفكيكية التي تناهض التفكير العقلاني في الإسلام، وأقامها مهدي الأصفهاني ومُجتبى القزويني، تنشد غربلة وتفكيك ميراث الوحي والنبوة الذي عبّرت عنه مدرسة آل البيت.
من خارج الحوزة كان الاتجاه التجديدي ينشأ ويتطوّر على تقديم تفسير علمي ومحدد للدين والتراث، قاده أول رئيس وزراء للحكومة المؤقتة بعد الثورة الإيرانيّة مهدي بازركان، وجانبه قام تيّار الهوية الذاتية، الذي قاده الفيلسوف الشفاهي أحمد فرديد الذي أطلق عليه الرفاعي وصف "الفيلسوف ضد الفلسفة" اعتمد على ابن عربي وهايدغر واللسانيات وعلم اللغة المقارن في التنقيب عن الألفاظ والكلمات في "مزيج غير متجانس" حيث أفكار هذا التيار توجد عند شريعتي.
ثمة أيضاً، تيار معرفي عابر للأيديولوجيا يتوكأ على فلسفة العلم والألسنيات وعلوم التأويل يوظف علم الاجتماع والأنثربولوجيا مهتماً بالموروث الصوفي المتأخر في الإسلام، وكان هذا التيار ينشد الانتقال من الإيديولوجيا إلى الأنطولوجيا أو من الشريعة إلى الطريقة وصولاً إلى الحقيقة بتعبير المتصوّفة.
من كل هذه الآثار إضافة إلى سارتر وغيره في باريس أيام دراسته، تشكّل فكر علي شريعتي الذي سعى إلى تقديم تفسير ثوري للدين، وشيئاً فشيئاً صار يقدّم الدين كأيديولوجيا، التي يصفها الرفاعي بأنها "تعطّل التفكير التساؤلي" و"تقدّم الأفكار كحقائق جزمية نهائية".
في "التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي للمقدس" يقدّم بلغة المتصوفة في الوصف والشرح والإبانة نقده للتصوّف السلوكي الاجتماعي من مثل الدروشة التي يعتبرها من تشوّهات المسلمين العميقة، والتي عملت على الاستعباد والتفكير بعقلية القطيع. بعكس ذلك هناك التصوف المعرفيّ الذي قدّمه الشافعي والأشعري، وعملا على منحه أفقاً رحباً للتأويل.
ينتقل الرفاعي بعدها - مع خشيته أن تفسّر مقولاته تفسيراً طائفياً - إلى نقد ابن تيمية وامتداد التكفير الواقع على المتصوفة والفلاسفة من خلال الفقهاء، إلى تكفير ديوان البحوث والإفتاء في داعش، ليصل إلى خلاصة أن الدين "أُنهك وأُفقر ميتافيزيقياً، وخفضت طاقته الروحانيّة لصالح التشدّد والقراءة القشرية له" من خلال الأنساق والنماذج المعيارية التي تمارس نوعاً من الإكراه، وللخروج من كل ذلك، يقترح مسائلة الموروث في علم الكلام القديم وأصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير.
لا يغفل الرفاعي عن الإشارة إلى ما يصفه بالخلط العشوائيّ في فهم الدين عن طريق العلمانية في ما يطلق عليه "العلمانية المؤمنة"، ويؤشر إلى عقلانية ابن رشد والمعتزلة، عقلانية زمان آخر، كما أن عقلانية ديكارت ليس نفسها عقلانية أرسطو، حيث لكلٍ عقلانيته الخاصة بزمانه.