كما أنّ للقضاء العادي ميزاناً يقيّمه، كذلك فإنّ للقضاء العرفي "بِشْعَة" تشوّه الجناة وتكشفهم. هكذا تذهب العقلية البدوية إلى اعتبار "مجالس البشعة" الوسيلة الأنجع في القضايا المعقدة، فهي تمثل نموذجاً من القضاء البدائي المتوارث الذي يفترض تدخلاً غيبياً لكشف الجريمة، إذ يلجأ إليها المتخاصمون لحل ألغاز بعض جرائم القتل والعرض والسرقة وإثبات النسب، حين تثار الشكوك حول أشخاص بعينهم من دون توفّر أدلة كافية لإدانتهم، أو عندما تتعارض الأدلة والقرائن.
كانت لشعوب قديمة عديدة اختبارات قضائية مشابهة تسمّيها ابتلاءات، كالفرس والعبريين والآشورين والبابليين. ويشير البيروني (973- 1048) في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، إلى أنّ الهندوس كان لديهم الابتلاء بالماء والنار، فيؤتى أحياناً بالمتهم إلى نهر شديد الجريان عميق القعر أو إلى بئر عميقة القعر كثيرة الماء، ويُطلب منه التوجّه إلى الماء قائلاً: "أنت من أطهار الملائكة عارفة بالسرّ والعلانية، فاقتلني إن كنت كاذباً واحرسني إن كنت صادقاً"، ومن ثم يحمله خمسة أشخاص ويلقونه في الماء. وإذا كان صادقاً، لم يغرق ولم يمت.
وأحياناً تحمّى قطعة من الحديد تكاد تذوب من النار، وتوضع بالكلبتين على كفّ المتهم المُنْكِر، ليس بينها وبين الجلد سوى ورقة عريضة من أوراق النبات، تحتها حبات أرز في قشورها متفرقة، ويؤمر بحملها سبع خطوات، ثم يرمي بها على الأرض، فإذا احترقت يده كان مداناً وإلا ثبتت براءته.
قاضٍ متفرد
المُبَشِّع في الأعراف القبلية يعدّ قاضياً مميزاً، والبشعة مهنة متوارثة تحتكرها قبائل بعينها. وعادة، لا يكون إلا مبشّع واحد لقبائل عدة، يلجأ إليه الجميع. في سيناء تعرف بذلك قبيلة العيايدة، وكانت في الماضي تعرف بها قبيلة بلى. وفي الأردن، عائلة الدبر من عشيرة العمران، وعائلة السلامات من عشائر النجادات. وفي حضرموت (اليمن)، يتوارثها آل عبد الودود الكثيريين.
عادة ما يكون المبشّع منتمياً إلى بعض الطرق الصوفية. وهو يستضيف الخصوم والمرافقين ويكرمهم بالطعام والضيافة اللازمة. ويحصل المُبشّع على أجرة مقابل عمله. وفي بعض الأحيان يأخذ تأميناً من الطرفين، ثمّ يحصل على أجره كاملاً من الطرف الذي خسر دعواه، ويردّ التأمين لمن كسب الدعوى.
وصف المجلس
تعقد مجالس البشعة نهاراً، إما صباحاً أو بعد الظهر أو بعد العصر، ولا تعقد أبداً في الليل. يستخدم في إجراء البشعة "طاسة" (طاس) من الحديد تشبه المغرفة، قطرها أربع بوصات في نهاية ذراع معدنية طويلة. وعندما يجتمع الناس حول خيمة المبشّع، توقد نار في الخلاء، وعندما تتقد، توضع الطاس في النار حتى تصل إلى درجة الاحمرار. حينها يقتنع المبشّع والشاهد والجمهور بأنّها صارت متوقدة. ثمّ يعطي المبشّع المتهمَ قدراً من الماء يمضمض به فمه، ثم يبصقه على الأرض. ومن ثم يخرج المتهم لسانه لفحصه والتأكد من سلامته وأنّه في حالة طبيعية.
يسحب المبشّع الطاسَ من النار ويشهد الناس على أنّها متقدة. ولكي يظهر أنّ النار لا تؤذيه باعتبارِه غير مدان، يلحس الطاس بلسانه أو يلمسها بذراعه العارية، ثم يعيدها إلى النار لتستعيد ما فقدته من سخونة. بعدها يأمر المتهم بإخراج لسانه، ويضع الطاس لحظة على اللسان، ويفحص المبشّع اللسان. إذا وجده مصاباً، أعلن أنّ المتهم مذنب، وإذا لم يجد به أذىً أعلن أنّ المتهم بريء. ويفحص الشاهد لسان المتهم ثم يعلن الحكم للجمهور.
البشعة بالنيابة
في كتاب "تراث البدو القضائي"، يروي محمد أبو حسان مجموعة من القصص عن البشعة، من بينها ما يشير إلى أنّه في بعض الحالات يمكن أن ينوب شخص عن شخص متهم في التعرض للبشعة، وفقاً لشروط خاصة، فيقول نصاً يشير إلى أنّه يتقمص شخصية المتهم: "أنا حاط فلان في بطني، وابشع عنه".
وقد حدث أن توفي رجل من عشيرة الربايعة وشكّ أهله في أن تكون زوجته دسّت له السّم. اجتمعت عشيرة الزوج مع عشيرة الزوجة واتفق الطرفان على أن يذهب أخو الزوجة إلى المبشّع ويتبشّع نيابة عن أخته. وأجريت البشعة فعلاً كذلك، وأسفرت عن براءة الزوجة.
الاستئناف والتفسير
ربما تأتي تسمية "البشعة" من بشاعة الموقف والنتائج المشوّهة التي تحدث لمن يتعرض لها، ويكون مذنباً في نظر الناس. وهو ما يشير إليه أحمد الشاطري في كتابه "أدوار التاريخ الحضرمي"، بقوله: "والغريب أنّهم - البدو - يؤكدون أنّها لا تخطئ أبداً، بينما رجال الشرع يستبشعونها".
على الرغم من ذلك، فإنّ بعض البدو ربما يتشكّكون في أمانة المبشّع أو كفاءته، بالتالي يذهبون للاستئناف عند مبشّع أكبر وأشهر. وبالطبع يكون ذلك بعد براءة المتهم، في المرحلة الأولى، إذ كيف للمتهم الذي احترق لسانه أن يعرّض نفسه للبشعة مرة أخرى.
وقد اختلفت التفسيرات العلمية للبشعة، ويشير الدكتور محمد زناتي، وهو أستاذ في القانون، إلى نظريتين في ذلك، تقوم الأولى على أساس أنّ للمبشّع دوراً حاسماً في توجيه نتيجة البشعة بحسب ما يعتقده هو شخصياً في كون المتهم بريئاً أو مذنباً. ويكون ذلك مثلاً، بتمرير البشعة سريعاً على اللسان إذا كان يظنه بريئاً. أما النظرية الثانية فتستند إلى أنّ نتيجة البشعة تتوقف على رد فعل المتهم، ومدى إيمانه بالبشعة كوسيلة لإثبات الصدق أو الكذب.
كانت مجالس البشعة في الماضي منتشرة بكثرة، غير أنّها أصبحت نادرة مع ازدياد مستوى التعليم واعتبارها من الخرافات، ومع كثرة الفتاوى الدينية التي تحذر من عدم شرعيتها، بالإضافة إلى الآراء القانونية والحقوقية التي تحذر من هذا النوع من العقاب حتى لو ثبتت الإدانة. حرق اللسان عقاب أولي قد يتبعه العقاب الثأري الذي يصل في حالات هتك العرض والقتل إلى الثأر بقتل المتهم.