29 سبتمبر 2017
"البالة" رمزاً للكارثة
ربما ستنشأ علاقة حب وإدمان، في السنوات المقبلة، بين السوريين والملابس المستعملة الشهيرة بالبالة، كما نشأت مثيلتها بين الفلسطينيين اللاجئين بعد النكبة. لم تقدم "أونروا" للاجئين الفلسطينيين، في سنوات اللجوء الأولى، الطحين والزيت والسكر والحبوب وحليب الأطفال فقط، بل قدمت الملابس مرتين في العام، قبل الشتاء وقبل الصيف. كانت "البقجة" متنوعة الملابس للصغار والكبار، وكان المشرفون على توزيعها يعرفون الأسر، بحسب بطاقة الإعاشة وعدد أفرادها وأعمارهم.
أحببنا البقجة. أحببناها، على الرغم من أنها كانت رمزاً لمأساة الشتات والعوز والذل والمهانة، فقد كانت تحمل لنا، نحن الصغار، وعوداً بملابس لم يكن من السهل الحصول عليها من سوق المدينة. وكان للبقجة رائحة محببة، هي رائحة النفتالين المعقم وطارد العث والحشرات الأخرى التي تتغذى بالقماش القديم المهمل. صارت رائحة النفتالين من الروائح النافذة إلى منعرجات الذاكرة، نشمّها، اليوم، فتعود بنا إلى ماضٍ يتجدد مع مأساة اللاجئين السوريين، ورميهم في غياهب الجبّ. كنا نحلم ونحكي عن أحلامنا وتخيلاتنا الساذجة، النابعة من رغبةٍ في الخلاص من واقع اللجوء. كنا نحلم بأن نجد في سروال أو سترة أو معطف من معاطف البالة رسالة من ذلك الشخص المحسن الذي تبرع بها لمساعدة اللاجئين، يدعونا فيها إلى بلاده ضيوفاً مكرمين، أو ورقة يعد فيها بمساعدة مالية، وكان المراهقون منا يحلمون برسالة من امرأة مجهولة، شقراء غالباً، تأخذهم إلى عوالم جديدة من الحب.
في العمر اللاحق، صار ارتداء الملابس المستعملة إدماناً ممتعاً، ليس من السهولة التخلص منه. في كل بلد زرته في العالم كنت أزور حوانيت البالة التي لها أسماء مختلفة باختلاف لغة البلد. وتجارة الملابس المستعملة اليوم من أهم أنواع التجارة، وتدر أرباحاً بمليارات الدولارات في أميركا وأوروبا، وقد تطورت هذه التجارة، منذ القرن الثالث عشر، تطوراً أصبحت فيه جزءاً من الاقتصاد العالمي، بعد أن عادت، في العصر الحديث، بادرة إنسانية، من جمعيات خيرية عالمية، مثل "أوكسفام" وغيرها، لمساعدة شعوب العالم الفقيرة، أو شعوب الكوارث بسبب الحروب أو تقلبات الطبيعة المدمرة.
استنادا إلى علم النفس الاجتماعي، الولع بشراء الملابس المستعملة يدفعه سلوك الهوس بالستايل، أو الموضة الخاصة، المختلفة عما هو سائد في المجتمع، والابتعاد عن التماثل الذي تفرضه السوق العامة والشركات الصانعة للملابس، كما أن المولعين بالشراء يبحثون عن اقتناص الفرص الثمينة النادرة في إيجاد قطعة ملابس ذات قيمة خاصة في الماضي، وهم عموماً يسعون نحو الكمال في النظرة إلى صورتهم التي تنسجم مع نظرتهم أصلاً إلى ذواتهم، أفراداً ومنتمين إلى فئة معينة من المجتمع، مثقفين أو متمردين على المألوف. وقد تكون وراء الإدمان على شراء الملابس المستعملة نزعة نشطة لتحفيز النوستالجيا إلى ماضي الملابس نفسها، وإلى الفترة الزمنية التي صنعت فيها، وما ترافق مع تلك الفترة من محرّكات ثقافية وسياسية واجتماعية، وربط ذلك كله بالأشخاص الذين أول من استخدموا تلك الملابس، وفي ذلك ارتباط ما بالأصالة الغابرة التي شوّهها، اليوم، مفهوم الاستهلاك الفائض والإنتاج السريع والتشابه والقصف المتكرّر للعين والعقل، من خلال الإعلانات الطاغية.
في البحث في حوانيت الملابس المستعملة اتفاق ضمني بين الزبائن المتجولين فيها الذين لا يعرفون بعضهم، وهم يبحثون عمّا هو فريد وخاص للشراء، كما أن هناك، في الوقت نفسه، تنافساً بينهم أحياناً، ذلك أنهم جميعاً يبحثون عن كنز مفقود، يخفي، في مغاراته، جوهرة تليق بما هو مفقود في نفوسهم، تلك الجوهرة التي تشعرهم بالاكتفاء النفسي والتفرد، ومناهضة الامتثال القاسي الذي تفرضه آلة عصر الاستهلاك المتوحشة. بقجة الملابس المستعملة التي قدمت للفلسطينيين في لجوئهم كانت رمزاً مهملاً لوطنٍ مفقود، كما بقجة السوريين اليوم رمز لكارثة مرعبة.
أحببنا البقجة. أحببناها، على الرغم من أنها كانت رمزاً لمأساة الشتات والعوز والذل والمهانة، فقد كانت تحمل لنا، نحن الصغار، وعوداً بملابس لم يكن من السهل الحصول عليها من سوق المدينة. وكان للبقجة رائحة محببة، هي رائحة النفتالين المعقم وطارد العث والحشرات الأخرى التي تتغذى بالقماش القديم المهمل. صارت رائحة النفتالين من الروائح النافذة إلى منعرجات الذاكرة، نشمّها، اليوم، فتعود بنا إلى ماضٍ يتجدد مع مأساة اللاجئين السوريين، ورميهم في غياهب الجبّ. كنا نحلم ونحكي عن أحلامنا وتخيلاتنا الساذجة، النابعة من رغبةٍ في الخلاص من واقع اللجوء. كنا نحلم بأن نجد في سروال أو سترة أو معطف من معاطف البالة رسالة من ذلك الشخص المحسن الذي تبرع بها لمساعدة اللاجئين، يدعونا فيها إلى بلاده ضيوفاً مكرمين، أو ورقة يعد فيها بمساعدة مالية، وكان المراهقون منا يحلمون برسالة من امرأة مجهولة، شقراء غالباً، تأخذهم إلى عوالم جديدة من الحب.
في العمر اللاحق، صار ارتداء الملابس المستعملة إدماناً ممتعاً، ليس من السهولة التخلص منه. في كل بلد زرته في العالم كنت أزور حوانيت البالة التي لها أسماء مختلفة باختلاف لغة البلد. وتجارة الملابس المستعملة اليوم من أهم أنواع التجارة، وتدر أرباحاً بمليارات الدولارات في أميركا وأوروبا، وقد تطورت هذه التجارة، منذ القرن الثالث عشر، تطوراً أصبحت فيه جزءاً من الاقتصاد العالمي، بعد أن عادت، في العصر الحديث، بادرة إنسانية، من جمعيات خيرية عالمية، مثل "أوكسفام" وغيرها، لمساعدة شعوب العالم الفقيرة، أو شعوب الكوارث بسبب الحروب أو تقلبات الطبيعة المدمرة.
استنادا إلى علم النفس الاجتماعي، الولع بشراء الملابس المستعملة يدفعه سلوك الهوس بالستايل، أو الموضة الخاصة، المختلفة عما هو سائد في المجتمع، والابتعاد عن التماثل الذي تفرضه السوق العامة والشركات الصانعة للملابس، كما أن المولعين بالشراء يبحثون عن اقتناص الفرص الثمينة النادرة في إيجاد قطعة ملابس ذات قيمة خاصة في الماضي، وهم عموماً يسعون نحو الكمال في النظرة إلى صورتهم التي تنسجم مع نظرتهم أصلاً إلى ذواتهم، أفراداً ومنتمين إلى فئة معينة من المجتمع، مثقفين أو متمردين على المألوف. وقد تكون وراء الإدمان على شراء الملابس المستعملة نزعة نشطة لتحفيز النوستالجيا إلى ماضي الملابس نفسها، وإلى الفترة الزمنية التي صنعت فيها، وما ترافق مع تلك الفترة من محرّكات ثقافية وسياسية واجتماعية، وربط ذلك كله بالأشخاص الذين أول من استخدموا تلك الملابس، وفي ذلك ارتباط ما بالأصالة الغابرة التي شوّهها، اليوم، مفهوم الاستهلاك الفائض والإنتاج السريع والتشابه والقصف المتكرّر للعين والعقل، من خلال الإعلانات الطاغية.
في البحث في حوانيت الملابس المستعملة اتفاق ضمني بين الزبائن المتجولين فيها الذين لا يعرفون بعضهم، وهم يبحثون عمّا هو فريد وخاص للشراء، كما أن هناك، في الوقت نفسه، تنافساً بينهم أحياناً، ذلك أنهم جميعاً يبحثون عن كنز مفقود، يخفي، في مغاراته، جوهرة تليق بما هو مفقود في نفوسهم، تلك الجوهرة التي تشعرهم بالاكتفاء النفسي والتفرد، ومناهضة الامتثال القاسي الذي تفرضه آلة عصر الاستهلاك المتوحشة. بقجة الملابس المستعملة التي قدمت للفلسطينيين في لجوئهم كانت رمزاً مهملاً لوطنٍ مفقود، كما بقجة السوريين اليوم رمز لكارثة مرعبة.