بعد ثلاث سنوات من عرض مسلسل "البابا الشاب" The Young Pope على منصة HBO، الذي جذب الأنظار بجدة موضوعه وصورته الفنية الجميلة، التي تميز أعمال المخرج الإيطالي باولو سورينتينو Paolo Sorrentino، يأتي الجزء الثاني، "البابا الجديد" The New Pope، بشحنة مبهرة بصرياً، لكنها لا ترقى فكرياً لما تطمح إلى إيصاله.
في الجزء الأول، حمل البابا الشاب بايس الثالث عشر Pope Pius XIII، الذي أدى دوره جود لو Jude Law، رسالة تنادي بإحياء تاريخ الكنيسة المتشدد. يأتي هذا على عكس التوقعات التي ينبئ بها اختيار جود لو لهذا الدور، فلم يكن البابا الأميركي الشاب الوسيم، من حاملي رسالة الورع الدمث، كذلك لم يكن يتوافق مع الصورة التي قد تقدمها مسلسلات هوليوود للبابا متعدد العلاقات، فقد نادى البابا بإقصاء المثليين ورفض الإجهاض، وجاء خطابه شديد اللهجة بعيداً عن التسامح.
بينما في الجزء الثاني، قدم جون مالكوفيتش John Malkovich خليفة البابا بايس الثالث عشر، وعلى العكس من كونه يوحي بدور الطاغية المتشدد، دور البابا الهش الذي تملأ قلبه الأسئلة عن معنى الوجود. بين هذين النقيضين، يصبح أمر تقرير سياسة حكم الفاتيكان موضوعاً للجدل والصراعات السياسية، بحسب حبكة الجزء الأول والثاني.
تأتي أهمية مراجعة هذا العمل في كونه من الأعمال ذات الإنتاج الضخم التي روجت لها HBO و Canal Plus لهذا العام. ضمن لوحات فنية محكمة الصنعة، يسعى سورينتينو إلى إبهار المشاهد بفخامة عمله. لكن يأخذ الحوار وبناء الشخصيات صيغة أقرب إلى المجاز بعيداً عن التعمق في رغبات الشخصيات الإنسانية، ما يجعلها تبدو مصطنعة لتناسب تصورات المخرج عن الفاتيكان وقضايا العصر الحديث. في حوارات تبدو كحكم ومواعظ، يعيش البابا جون بول الثالث Pope John Paul III، خليفة البابا بايس الثالث عشر الذي وقع في غيبوبة تصعب نجاته منها، بحسب الأطباء، صراعاً بين رغبته في أن ينجح في دوره كمرشد وأب روحي للكاثوليك، ورغبته في أن يعيش في عزلته بعيداً عن الأضواء.
وفي ثنائيات لانهائية بين الدنيوي والسماوي، وبين العبادة والسياسة، وبين الرغبة والطهرانية، وبين الحداثة والتاريخ، وبين الثقافة الكلاسيكية وثقافة البوب، تحملنا الحبكة إلى طرح أسئلة عن دور الكنيسة في عصرنا الحالي. ضمن هذه الثنائيات، يمتد العمل ليعرض أحداث تفجيرات إرهابية تطاول الكنيسة. هذه الأعمال الإرهابية تأتي على خلفية حوار عنيف وكاره للمسيحيين، من قبل ما يُسمى الخليفة، تبثه القنوات الإعلامية على طول حلقات المسلسل. وعلى خلفية هذه التفجيرات، يُعتقَل لاجئ سوري يحتمي بالكنيسة كمتهم محتمل.
في تطور مفاجئ، يستيقظ البابا بايس الثالث عشر من غيبوبته، ويعمل مع البابا جون بول الثالث لإنقاذ رهائن من الأطفال تعتقلهم مجموعة إرهابية. وفي أثناء سعيه إلى ذلك، يهدد البابا بايس الثالث عشر بتحريض آلاف المتشددين من الكاثوليك للوقوف في وجه الخليفة الأصولي. وفي ما يبدو أنه حرب تعلنها الفاتيكان على التشدد بمثله، يدرك البابا بايس الثالث عشر خطأه عندما يتبين أن الأعمال الإرهابية لم تكن من صنع الأصوليين، بل نتيجة أعمال مجموعة كاثوليكية تسير بحسب تعاليمه. بذلك، يندم البابا بايس الثالث عشر على تهوره وعلى خطابه المتشدد، ويسعى إلى نشر المحبة والتسامح بدلاً من الغضب والكره.
تعكس الأعمال الجديدة التي تدور حول الكنيسة، كما في حالة فيلم Netflix بعنوان The Two Popes ومسلسل The New Pope رغبة في الإجابة عن دور الكنيسة في ما يعيشه العالم من أحداث متتابعة، ومنها التطرف والإرهاب والفقر والتلوث. وتأتي هذه الأعمال لتعكس روح المرحلة التي تحكمها ثنائيات قهرية تجعل تخيلنا لواقع متنوع وغني شبه مستحيل.
لم يكن الجزء الثاني، بحسب النقاد والمتابعين، بقوة الجزء الأول، فقد تشعبت موضوعاته لدرجة أن المشاهد يتشتت باحثاً عن الخيط الرئيسي الذي يشد الأحداث.
عكَس الجزء الأول فانتازيا تتساءل عمّا سيحصل إن وصل شاب أميركي وسيم إلى منصب البابا. بينما حاول القائمون على العمل في الجزء الثاني تطهير الكنيسة من الفساد وجعلها لاعباً أساسياً في السياسة ومحاربة الإرهاب ونشر خطاب الرحمة والإنسانية.
في كلتا الحالتين، يظهر المسلسل في جزأيه فراغاً في دور الكنيسة ورغبة في تحركها في سبيل التغيير. لكن طريقة إجابة الميديا عن هذه الأسئلة، تأتي مرة أخرى بشكل سطحي يخلو من العمق أو التمعن بأسباب هذه الظواهر ومآلاتها، لتسقط مرة أخرى في فخ التنميط والتعميم. وبالرغم من ذلك، يبقى أن الميديا لا تتردد في الخوض بجميع القضايا مهما كانت شائكة، ما يدل على مرونتها ويعكس إرادة حرة تستمر بطرح الأسئلة.