"الإقراض الموازي" في تونس... شبكات تعصف بالبنوك والمستهلكين

17 فبراير 2019
تزايد الأعباء المعيشية يدفع الكثير من الأسر للاقتراض(فرانس برس)
+ الخط -

يدفع الطلب المتزايد للتونسيين على القروض الاستهلاكية، إلى انتعاش أنشطة "الإقراض الموازي" التي تقوم بها مؤسسات تتخفى وراء واجهات لنشاطات تجارية، مستفيدة في ذلك من تشدد البنوك في منح القروض الاستهلاكية للمواطنين، وكذلك شح السيولة لدى القطاع المصرفي.

ورغم ارتفاع أسعار الفائدة التي تطلبها مؤسسات "الإقراض الموازي"، إلا أن هناك تزايداً في الإقبال عليها، ولا سيما أنها أضحت البديل لتوفير حلول مالية للكثير من الأسر التي أنهكها الغلاء وتراجعت قدراتها الشرائية.

وتتبع المنشآت العاملة في الإقراض الموزاي طرقاً للتحايل على القانون، إذ تقدم الأموال بشكل مباشر للمقترضين، بينما يجري تدوين الديون تحت بند مشتريات أجهزة منزلية وكهربائية بالتقسيط بفائدة مرتفعة تصل إلى 50%.

ورغم تشدد البنوك في منح القروض الاستهلاكية للمواطنين خوفاً من تزايد حالات التعثر في ظل تراجع مستويات المعيشة بالدولة، إلا أن تمدد أنشطة الإقراض الموازي ينذر بتعرّض القطاع المصرفي لمخاطر مرتفعة، في ظل عزوف المواطنين مع مرور الوقت عن التعاملات المصرفية واستبدال البنوك بمنشآت موازية. وعادة تجابه الطبقة المتوسطة في تونس النفقات العائلية، بالاستعانة بالقروض البنكية القصيرة الأجل.

وفي تحقيق لـ"العربي الجديد"، جرى رصد الكثير من الحالات التي تقوم خلالها محالّ لبيع الأجهزة الإلكترونية والمنزلية بتقديم قروض للمواطنين، وباتت هذه المحالّ مقصداً للكثيرين لتعويض عدم قدرتهم على تلبية حاجاتهم من قبل البنوك التجارية.

وتمنح هذه المحالّ قروضاً، تتراوح ما بين ألف وخمسة آلاف دينار لعملاء يتقدمون إليها على أساس أنهم سيقتنون أجهزة منزلية (ثلاجات وآلات غسيل). وبدلاً من السلع المتفق عليها وفق فواتير الشراء، تمنح هذه المحالّ قروضاً للعملاء بسعر تلك السلع، مع إضافة نسبة فائدة كبيرة تحت عنوان عمولات التقسيط، في المقابل يتولى العميل الالتزام بسداد المبلغ الإجمالي عبر أقساط شهرية تحسم مباشرة من راتبه.

ولضمان كافة حقوقها، تطالب مؤسسات الإقراض الموازية، المقترضين بضمانات تمكّنها من اقتطاع قيمة القسط الشهري من راتب المقترض مباشرة.

ويؤكد خبراء ماليون، أن ظاهرة الاقتراض من أبواب موازية، تزيد من استفحال الأنشطة الموازية، التي طاولت كل القطاعات الاقتصادية في تونس، مطالبين بضرورة معالجة الوضع في البنوك، قبل تغوّل أنشطة الإقراض غير الرسمية وتحوّلها إلى ظواهر يصعب تطويقها.

وتراجعت القروض الممنوحة من قبل البنوك للأسر بنسبة 48% حتى سبتمبر/ أيلول 2018، متأثرة بزيادة نسبة الفائدة، وفق تقرير حديث صادر عن المعهد الوطني للاستهلاك.

وقام البنك المركزي التونسي برفع نسبة الفائدة الرئيسية في مناسبتين خلال العام الماضي، الأولى يوم 5 مارس/ آذار 2018 لتصل إلى 5.75%، والثانية يوم 5 يونيو/ حزيران 2018 إلى 6.75%.

ويؤكد محسن حسن الخبير المالي التونسي، أن ظاهرة مؤسسات الإقراض الموازية، باتت أمراً واقعاً في تونس، يجب أخذه بالاعتبار لدى السلطات المالية، مشدداً على ضرورة رصد هذه الظاهرة ومقاومتها، حتى لا تزيد من تسرب الكتلة المالية خارج الجهاز المصرفي.

ويقول حسن لـ"العربي الجديد"، إن الضغوط المعيشية بفعل الزيادات الكبيرة في الأسعار، جعلت الكثير من الأسر عاجزة عن مجابهة نفقات المعيشة والدراسة ومواسم الأعياد، ما يضطرها إلى الاقتراض حتى من المسالك الموازية.

وبات الاقتراض تقليداً راسخاً لدى الأسر التونسية، إذ كشفت بيانات رسمية حديثة عن ارتفاع نسبة الاستدانة لدى الأسر بنسبة 117% منذ عام 2010 وحتى منتصف العام الماضي 2018، وأصبح ربع العائلات يدفع أقساطاً شهرية للمصارف.

وبحسب دراسة للمعهد الوطني للاستهلاك الحكومي نشرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فإن 36.5% من التونسيين لديهم فرد على الأقل في العائلة بصدد سداد قرض بنكي و10.3% لديهم فردان في حالة سداد، فيما يلجأ 19.6% منهم بصفة مستمرة إلى قضاء حاجاتهم عبر الاقتراض وهم في حالة سداد دائمة للديون.

وسجّل إجمالي القروض التي حصلت عليها الأسر من ديسمبر/ كانون الأول 2010، إلى يونيو/ حزيران 2018 زيادة بـ117%، لتبلغ 23.1 مليار دينار (8.5 مليارات دولار).

ويقول الخبير المالي التونسي، إن المؤسسات التي تمنح العملاء قروضاً بدلاً من السلع مخالفة للقانون، وتوظف نسب فائدة عالية جداً، غير أنها تحصن نفسها بوثائق تثبت سلامة المعاملات التجارية التي تجريها، مشدداً على ضرورة أن يدرج البنك المركزي البيع الميسر أو بالتقسيط من قبل شركات ومحالّ السلع الإلكترونية ضمن قائمة القروض.

ويشير إلى أن البيع بالتقسيط هو عبارة عن قرض يحصل عليه المشتري، ويزيد بأي شكل من الأشكال في الاستدانة، ما يدعو إلى ضرورة إدراجه ضمن قائمة القروض التي يرصدها البنك المركزي عبر أجهزته الرقابية.

ويرى أن كل زيادة في قروض الائتمان في حال رصدها من المركزي، يمكن أن تكشف عن الممارسات غير القانونية التي تقوم بها بعض المحالّ أو شركات بيع السلع المنزلية والإلكترونية، معتبراً أن سحب مؤسسات القرض الموازية البساط من تحت البنوك يفاقم مشاكل السيولة التي يعاني منها القطاع المصرفي.

ويؤكد أن مؤشرات تراجع قروض الاستهلاك بنسبة 48% تحمل معها تسرب نسبة من حاجات التمويل هذه إلى أشكال عديدة من الاقتراض الموازي المحظورة قانونياً.

وكانت مؤسسة فيتش العالمية للتصنيف الائتماني، قد قالت في تقرير لها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إن النظرة المستقبلية للقطاع المصرفي في تونس غير مستقرة خلال عام 2019.

وأكدت فيتش أن "انخفاض السيولة بمثابة المشكلة الأكثر إلحاحاً، ومن غير المرجح أن تتحسن بدرجة كبيرة في 2019"، مشيرة إلى أن ودائع العملاء، المصدر الرئيس للتمويل البنكي في تونس، لا تتماشى مع نمو القروض.

وحسب أرقام مؤسسة التصنيف العالمية، بلغت نسبة القروض إلى الودائع بالقطاع المصرفي 131% نهاية يونيو/ حزيران 2018، واصفة وتيرة إصلاح البنوك بالبطيئة.

ورغم تحسن معدلات النموّ الاقتصادي في البلاد، إلا أن تونس تواجه تحديات اقتصادية، تتمثل في ارتفاع عجز الميزان التجاري، وتراجع سعر صرف العملة المحلية، وارتفاع التضخم، وعجز متواصل في موازنة البلاد.

يقول موظف بإحدى الدوائر الحكومية، وأحد عملاء مؤسسة قرض موازية في منطقة "لافايات" في قلب العاصمة تونس لـ"العربي الجديد"، إنه لجأ أكثر من مرة للحصول على قرض من إحدى المؤسسات التجارية، بدلاً من اقتناء سلع منزلية، مشيراً إلى أنه اضطر إلى إيهام الدائرة الحكومية التي يعمل بها بشراء سلع، لضمان التعهد الشهري باقتطاع شريحة القرض من راتبه.

ويضيف الموظف الذي كشف فقط عن اسمه الأول، وعرف نفسه بحازم (44 عاماً)، أنه حصل مؤخراً على مبلغ بقيمة 2300 دينار نقداً من المؤسسة التجارية، مقابل دفع قسط شهري 194 ديناراً على مدى 18 شهراً، أي إن المؤسسة المقرضة ستحصل على 3500 دينار. ويقول إنه لا خيار له، لأن ظروفه العائلية أجبرته على الاستدانة لدفع إيجارات متأخرة عليه، ورسوم لتعليم أبنائه في المدارس.

وتزيد نسبة الفائدة في حالة الموظف حازم عن 50%، وهو ما يبرره أحد العاملين في نشاط الإقراض الموازي إلى ارتفاع المخاطرة في الإقراض لبعض الحالات.

ويشكو زياد (46 عاماً) الذي يعمل موظفاً حكومياً، من تضييق البنوك التجارية على قروض الاستهلاك، معتبراً أن التمويلات القصيرة المدى متنفس مهم لقطاع الموظفين الذين تراجعت قدراتهم الشرائية كثيراً.

ويقول زياد لـ"العربي الجديد"، إن زملاء له في المصلحة الحكومية عملاء أوفياء لدى مؤسسات القرض الموازية، رغم إدراكهم عدم قانونية التعامل معها، مؤكداً انتشارها بشكل كبير في العاصمة وداخل المحافظات.

ويشير إلى أنهم مضطرون للتعامل مع مثل هذه المؤسسات، لرفض البنوك تقديم قروض من الأساس أو عدم انطباق الشروط على المقترض، التي تقتضي ألا يتجاوز القسط 40% من الراتب.

ويقول سليم سعد الله، رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك (منظمة مدنية)، إن مؤسسات الإقراض الموازية تعمل في غفلة من أجهزة الرقابة المالية، مشيراً إلى أن الاقتراض من مؤسسات ومحالّ بيع الأجهزة الإلكترونية والمنزلية ينقسم إلى صنفين، الأول يتمثل في شراء الشخص أجهزة بالتقسيط ويتسلمها، ثم يعيد بيعها في الأسواق بسعر أقل من ثمنها الحقيقي بهدف الحصول على السيولة المالية نقداً، وهذه الظاهرة متكررة ورصدتها المنظمة في كل محافظات البلاد.

أما الصنف الثاني، وفق سعد الله في حديث لـ"العربي الجديد"، فيتم في إطار اتفاق بين المؤسسة والعميل الذي يفضل الحصول على قرض مالي، يعادل قيمة الأجهزة التي يفترض أن يشتريها ويسدد قيمتها عبر أقساط شهرية.

ويقول إن صنفي الاقتراض يكشفان حجم المعاناة التي تتخبط فيها الطبقة الوسطى من التونسيين، ولا سيما الموظفين الذين يرهنون رواتبهم مقابل الحصول على بضعة آلاف من الدنانير بنسب فائدة عالية.

ويشير رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك، إلى ضرورة قيام أجهزة الرقابة برصد هذه الظواهر وأخذها بالاعتبار، مضيفاً أن "صمت السلطات الرسمية عن التجارة الموازية في وقت ما حوّل هذه التجارة إلى آفة ابتلعت 54% من الاقتصاد".

وأظهرت مؤشرات البنك المركزي التي جرى الكشف عنها يوم الثلاثاء الماضي، أن حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك تضاعف ثلاث مرات خلال ثماني سنوات، ليصل في 11 فبراير/ شباط الجاري إلى 16.24 مليار دينار (5.35 مليارات دولار)، مقابل نحو 5 مليارات دينار في 2010 .

ويرجع خبراء ارتفاع الكتلة النقدية خارج البنوك، إلى تفاقم ظاهرة الاقتصاد الموازي والتوجه نحو التعامل نقداً بسبب الأزمة الاقتصادية وانعدام الثقة في المنظومة البنكية.

ومن المنتظر أن يوجه البنك المركزي منشوراً جديداً لمؤسسات الدفع، للحد من التداول نقداً وفق تصريح لمحافظ البنك مروان العباسي مؤخراً، مشيراً أن هذه الخطوة ستؤدي إلى مقاومة تبييض الأموال بفضل شفافية التعامل.

المساهمون