فمنذ عامه التاسع اتّخذ الحاج درويش هذا المخبز بيتاً ثانياً له، وأصبحت صناعة الكعك بطريقته البدائية وطقوسه الخاصة جزءاً لا يتجزّأ من حياته اليومية، متمسّكاً بطريقة صنع الكعك البدائية، بكلّ تفاصيلها ومراحلها من العجين والتخمير والتخبيز.
الداخل إلى مخبز الحاج درويش، الملقّب بـ"أبو الأمين"، سيدرك من الوهلة الأولى كم من العصور مرّت على هذا المكان. فبناؤه القديم، المماثل لمعظم بيوت البلدة القديمة، يروي لك حكايات كثيرة عن تاريخ "دمشق الصغرى"، كما يُسمّي البعض مدينة نابلس.
سنوات عمره الـ78 لم تفلح في أن تسلب منه بسمته وروحه الشابة، وطاقته الجسدية التي تمنحه قوّة تُمكّنه من الوقوف على قدميه، متنقّلاً ما بين الطاولة حيث يشكّل أقراص الكعك و"السخّانة" حيث يضع صواني الكعك ليُخمّر. إضافة إلى وقوفه ساعات أمام بيت النار، الذي هو فرن بدائي.
يروي أبو الأمين حكاية "الألّيط" للأناضول: "قديماً كان يأتينا كعك الألّيط، أو الكعك الشامي، من الشام، وكان يوزّع على الجيش التركي كتموين له خلال سفره وحلّه وترحاله. فصلاحيته تدوم نحو عام، دون أن يتعفّن، بفعل الخميرة التركية المستخدمة لصناعته".
ويتابع: "تعلّم شقيقي الأكبر هنّود، رحمه الله، صناعة الكعك من أحد الجنود الأتراك، وقد كانت مهنته الأصلية خبّازاً، واستأجر هذا المخبز الذي لا زلنا نعمل فيه حتّى اليوم، ولا زلت أصنع الكعك على الطريقة ذاتها التي تعلّمناها من الجندي التركي. ومنذ ذلك الوقت لم يعد الألّيط يأتي من الشام".
يصمت قليلاً ويتّجه نحو العجّانة الأثرية، التي يفوق عمرها سنوات عمر "أبو الأمين"، ويفصل جزءاً من العجين، يرمي به على الطاولة حيث الكعك الدائري المكسو بالسمسم الأبيض، بمساعدة ابنه الشاب أيمن، ويضعانها على صوانٍ تحاكي هي الأخرى عراقة المكان.
وبينما يستمتع الحاج السبعيني بتدوير الكعك الذي يخرج بصورته النهائية وكأنّه يخرج من آلة حديثة، لشدّة تطابق القطعة مع الأخرى، يكمل حكايته: "تعلّم الكثير من الخبّازين في فلسطين طريقة صنع هذا الكعك من مخبزنا، كما أنّنا كنّا نبيعه في يافا".
أما الخميرة التركية المُستخدَمَة في صناعته، فهي تتألّف من حبّات حمص يابس مقسّم إلى أجزاء صغيرة، يرشّ عليها قليلاً من الملح، ويسكب القليل من الماء المغلي، ويضعها في إناء حيث الحرارة تصل إلى 40 درجة مئوية، لمدّة 12 ساعة، وبعدها يضع بعضاً منها على كميّة قليلة من الطحين والماء الساخن، لمدّة ساعة، وبذلك تصبح خميرة جاهزة للاستخدام في عجن الكعك".
ويشير أبو الأمين إلى أن مخابز عديدة في نابلس تشتري منه الخميرة التركية، كونها تدوم ولا يصيبها العفن، دون الحاجة إلى مواد حافظة. وبعدما يشكّل الكعك الدائري ويَصُفّه في الصواني، يضعه في صندوق خشبي كبير مغلق، يوجد في أسفله غاز صغير يعلوه وعاء ماء، ليتبخّر ويوزّع الحرارة على الصندوق، ويساعد على تخمير العجين خلال نصف ساعة، ليتمّ خبزه بعدها في بيت النار.
ثم يخبز خمس صوانٍ دفعة واحدة لمدّة نصف ساعة تقريباً، ويقلّب الكعك ليتمّ شويه على الوجهين: "عندما حاولنا صنعه باستخدام طرق حديثة اختلف الطعم. فللطرق البدائية نكهتها الخاصّة، وزباؤننا يرغبون بما نصنعه بأيدينا وليس بعمل الماكينات".
ويلفت أبو الأمين إلى أنّ أحد أبنائه افتتح مخبزاً بماكينات حديثة، ويصنع الكعك نفسه بالمقادير عينها، لكنّ الطعم يختلف، وزبائن المخبز يلحظون الفرق بين البدائي والحديث، بحسب قوله.
زبائن مخبز "الهنّود" يقصدونه من كلّ مكان في الضفة الغربية وخارجها، حتّى أن لديه زبائن من منطقة الجولان (الجزء الذي تحتلّه إسرائيل من الهضبة السورية)، وهو أعالَ عائلة "أبو الأمين" وعائلات أخوته خلال قرن من الزمن تقريباً، وحالياً يعيل أبناء "أبو الأمين" الثمانية.