"الأغنية البذيئة": خدش لا يتضامن معه أحد

17 مارس 2016
محمود عبود/ العراق
+ الخط -

يحفل التاريخ الموسيقي بالأغاني التي تقوم على ألفاظ اتُّفق على وصفها "خادشة للحياء" أو "مخالفة للآداب العامة". غير أن الآداب العامة في حدّ ذاتها مصطلحٌ مُبهم، ليس له توصيف محدّد، وهو مرتبط بالمنع وتكريس التابوهات التي يضعها مجتمع ما، وينبغي على الفن، إذا أراد أن يكون صادقاً في نقل الواقع، أن يتناولها سواء في سياق العرض، أو بالنقد أو بتوظيفها. وفي حال تحاشى الاحتكاك مع هذه المنطقة، سيكون مفتعلاً وزائفاً، ويصبح جزءاً من عملية التبرير والتعامي عن الواقع وتورية المعاني.

منذ أن تبلورت الأغنية في المجال العربي كقالب موسيقي متميّز، أدركنا وجود فئة منها لا تتردّد في تخطّي حدود "الآداب" المتّفق عليها، وهي تنقسم إلى قسمين يمكن حصر أغلبها داخلهما:

الأغاني المحظورة، والتي تخطو خطوة إلى ما بعد الإيحاء والتورية، ومنها تلك التي تدخل تحت النقد السياسي اللاذع، أو وصف العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، أو التي تمسّ بالمقدّسات العقائدية، وهذه الأغاني وقعت مباشرةً تحت طائلة المنع من البثّ في الإذاعات، كما تعرّضت أخرى إلى الحظر من خلال السكوت الاجتماعي عنها وتركها للنسيان، وأخرى عرفت كيف تأخذ موقعاً في التداول الشفهي، أو عبر الوسائط المتاحة كالأشرطة، وغالباً ما يستند هذا النوع إلى الخفّة المستمدّة من اللحن القريب من الذوق الشعبي، وكذلك من فكاهتها، كما هو الحال مع أغاني الشيخ إمام من شعر أحمد فؤاد نجم.

وضمن بقية الفئات المحظورة، نجد أغاني ازدهرت في فضاءات معيّنة أدّتها "العوالم" (الراقصات)، وأبرز مثال لها الطقاطيق المصرية والتونسية في عشرينيات القرن الماضي، مثل "على سرير النوم دلّعني" لحبيبة مسيكة التونسية، و"أنا مالي هي اللي قالتلي" لأمينة القبانية، و"أبو فروة" لفاطمة سري، وبعض أغاني عبد اللطيف البنا ومنيرة المهدية وبديعة مصابني التي اشتهرت بـ "الميوعة"، إضافة إلى تأثّر فنّانين آخرين بهذه الأجواء، مثل سيد درويش في "على قدّ الليل"، وفي زمن أقرب قدّم أحمد عدوية أغنية "لابس جبّة وقفطان" التي سُجن بسببها في 1985.

لكن أغانيَ "بذيئة" أخرى عرفت كيف تنتشر بفضل لعبة التورية، وهو ما نجده في أغاني الأفراح في مختلف المجتمعات العربية؛ حيث تجري الإشارة إلى الأفعال الجنسية من دون تصريح وبغير استخدام ألفاظ ترفضها الأذن. لعلّ هذه المساحة لا تزال تدعو الفنّانين إلى السير ضمنها، ومن أمثلتها اليوم أغنية سعد لمجرد "أنتِ باغية واحد".

يدخل ضمن هذا النوع أيضاً الأغاني التي اقتربت من لمس الممنوع دينياً، مثل الغزل أثناء الحج في أغنية طلال مدّاح "قف بالطواف" التي تعرّض لمتاعب بسببها، وتنجرّ عن إصدار مثل هذه الأغاني أحياناً حرب رسمية واجتماعية على أنواع موسيقية معيّنة؛ كالأغاني الريفية، وحديثاً أغاني الراب والميتال، وهذا النوع الموسيقي الأخير ارتبط في الذهنية العامة بـ "عبدة الشيطان"، ما جعله يتحرّك في دوائر ضيّقة.

قد يصح القول إن وسائل الاتصال الحديثة فتحت فضاءً جديداً لتمرير الأغاني المصرّحة بفحشها اللغوي، حيث بات ممكناً إنتاج أغنية ونشرها مباشرة على الإنترنت من دون المرور بأي وسيط قد يفكّر في فرض الرقابة على مضمونها.

هنا، تقع فئة كبيرة من "الأغاني البذيئة"، والتي غالباً ما يرى أصحابها أن كلماتها انعكاس مباشر للمتداول لغوياً في المجتمعات التي يعيشون فيها، في إشارة إلى قطيعة "الفن الرسمي" مع هذا الواقع. قد تصل هذه الأغاني إلى مستويات أبعد؛ حيث نجد فيها السبّ وتسمية الأعضاء والأفعال الجنسية بأسمائها الدارجة، غير أن مثل هذه الأغاني وإن وجدت حرّيتها افتراضياً، لا تزال تواجه قوانين تطارد مطلقيها.

هذا الأمر يحيلنا إلى ظاهرة أخرى، وهو نشر هذه النوعية من الأغاني من دون ذكر مصدرها، وهو أمر ينتشر في الفترة الأخيرة بتنويعات مختلفة؛ فمثلاً تجري إعادة كتابة بعض الأغاني الشهيرة من "الزمن الجميل" بألفاظ جنسية صريحة مثل "الحب كلّه" و"زوروني كل سنة مرة"، كما أخذت تبرز فرق فنية أعضاؤها مجهولو الهوية تستخدم الشتائم لانتقاد الواقع السياسي في ظل انحسار وسائل تعبير أخرى كما هو الحال في مصر مثلاً، كما توجد نماذج لأغان يقوم مؤدّوها بتغيير أصواتهم باستخدام التصحيح الإلكتروني.

نذكر مثالاً آخر متعلّقاً بالأغاني البذيئة والتحايل على المضايقات المترتبة عن نشرها، وهو فراس الحمزاوي في سورية الذي أطلق أغنية بذيئة واستفاد من صداقته لعائلة الأسد كي يمرّرها، كما توجد مجموعة من هذه الأغاني متداولة في الأفراح الشعبية والمطاعم وغيرها ولا يجري تسجيلها في محامل موسيقية تتحوّل إلى حجة ضد مؤدّيها.

أمام استمرار تضخّم الظاهرة، والتي تظل في النهاية إفرازاً للحياة اليومية العربية، لا يمكن التعامل معها من خلال التعامي عنها، بل بفهم ظاهرتها وانعكاساتها. أليست هذه الأغاني وجهاً آخر لقضية أحمد ناجي الذي يقف معظم المثقّفين العرب ضد محاكمته باسم "خدش الحياء العام"؟

دلالات
المساهمون