"الأشياء الجميلة" في بلادي

03 نوفمبر 2014
الامان الاجتماعي في لبنان( جوزيف عيد/فرنس برس/getty)
+ الخط -
الحمد لله على هذه النعمة. كل يوم، يشعر أبو فادي أنّه يعيش في ‏الجنة. ولمن لا يعرف أبو فادي، فهو الجار "الهادي". يستفيق صباحاً ‏بابتسامة تشق وجهه. يقف في المكان المخصص للأوتوبيس التابع ‏للنقل العام المتطور جداً في لبنان، ويجلس بصعوبة. فابتسامته تزداد ‏اتساعاً كل لحظة، لتشكّل خطّين نافرين يخرجان من الخد الأيمن ‏والخدّ الأيسر. ما يجبره على حجز مقعدين كي يتّسعا له ولابتسامته.‏
في دقائق قليلة يصل الى مكتبه، فلا زحمة سير ولا إشارات معطّلة ‏ولا مياه تغمر الطرق، رغم الشتاء، ولا شرطي السير يأكل التفاحة.‏
يعمل 8 ساعات بفرح، يزيد طول الابتسامة كثيراً. وللأمانة، ‏فابتسامته التي تخترق خده الأيسر بخطّ مستقيم خارج وجهه، أكبر ‏بسنتيمترات من الخط الخارج من خده الأيمن. السر هو أن صاحب ‏العمل اللطيف يجلس في مكتب على يسار الجار أبو فادي.‏
يعود أبو فادي الى بيته وتكاد قدماه تلامسان ظهره. سعيد جداً أبو ‏فادي. انظروا الى ابتسامته وقد خرجت من الباب لتنتظر أولاده الذين ‏يتعلمون في المدرسة الرسمية. والمدرسة الرسمية رائدة في التعليم ‏بالطبع. تعتبر الطلاب جيل المستقبل. فتقدم لهم الوجبات الفكرية ‏اللازمة. لا بل ترشدهم الى الاختصاص الجامعي المطلوب في سوق ‏العمل. وبعد الجامعة تتكفل بهم الدولة التي تعرف جيداً كيف تستثمر ‏أبناءها، فتكون الوظائف منتظرة من يشغلها.‏
وراتب أبو فادي منصف وهو ليس مديوناً، أصلاً لا يوجد في بلده حاجة للاستدانة. وحصته من البترول الذي يتدفق من بحر ‏لبنان وبرّه تصله كما كل المواطنين، بعدالة مدروسة. كذلك بيته، هادئ، لا تحيط به أي اشتباكات، في بلد المحبة الفائضة. الكهرباء تشعشع في جنبات المنزل طوال ‏الساعات الـ24 يومياً. المياه نظيفة ومتدفقة. لديه كل حاجاته الأساسية ‏من سلع غذائية بأسعار معقولة جداً، وجودة مميزة. حتى إنه يملك ‏موقفاً لسيارته تحت المبنى حيث يعيش. طبعاً هذا عادي، لأن كل هذه ‏الخدمات مؤمنة لكل جيران أبو فادي.‏
لكن أبو فادي مأزوم. فهو يفكر دائماً في مشكلة حياته الوحيدة، وهي ‏لون بيته. لونه أبيض، وهو يحب اللون البنفسجي. واللون الأخير ‏غريب عجيب. يشتريه على أنه بنفسجي، وعندما يطلي الجدران به ‏تراه يتحول إلى الأسود. غريب.‏
من شدة قلق أبو فادي على لون بيته، أُصيب بعارض صحي بسيط. ‏وبهدوء، انتقل أبو فادي، الجار "الهادي"، الى المستشفى العام. ويا ‏سلام. استقبال ونظافة، وجودة الخدمات لا تُضاهى، والأهم انخفاض ‏الكلفة. لا يدفع أبو فادي الكثير هنا، فهو ملتزم بدفع الضرائب، وفي ‏المقابل تؤمن له الدولة تغطية استشفائية كاملة. وكي لا ننسى، لم يكن ‏أي موظف في حاجة إلى حقّ من حقوقه في المستشفى، ولم يكن ‏هنالك أي إضراب عن العمل.‏
وهنا أيضاً كانت ابتسامة أبو فادي تتّسع. سأله الطبيب ‏المبتسم إن كان يريد دهن ابتسامته، التي أصبحت بعرض مدينة ‏بيروت، باللون البنفسجي. قدّر أبو فادي الطلب كثيراً، لكنه كان ‏مصراً على أن يدهن بيته بالبنفسجي، لا ابتسامته. ‏
عاد الجار "الهادي" إلى بيته، نام أمام مدخل البيت وترك رأسه في ‏الخارج، إذ إن اتّساع ابتسامته جعلها خارج حدود لبنان.‏
صباحاً، استفاق أبو فادي وشعر بألم في وجهه. كانت ابتسامته ‏تصطدم بابتسامات الشعوب العربية. ابتسامات أفقية، ابتسامات ‏عمودية، ابتسامات أرض – جوّ، ابتسامات حلزونية... يااااه، اكتشف ‏أبو فادي، أن جنّته واسعة جداً.‏
ومع اكتشاف جنّات الدول العربية كانت ابتسامته تتّسع وتتّسع، حتى ‏إنه استطاع أن يسمع عبر فمه. سمع نساء يزغردن. سمعهنّ يقلن ‏‏"وزغردي يا انشراح، اللي جاي أحلى من اللي راح". فانزعج أبو ‏فادي الجار "الهادي". تذكر مأساة بيته. وشعر أنه وحده من بين ‏ملايين العرب لديه مشكلة. هو وحده من يتعرض لظلم وقهر اللون ‏البنفسجي، وهو وحده من يخضع لفساد هذا اللون وتفرّده وانحيازه ‏وغشّه وتحوّله إلى اللون الأسود البشع. هو وحده المهدور حقه. ‏
فجأة لمعت عينا أبو فادي. واتّسعت ابتسامته، أكثر، وأكثر، ‏وأكثر. قرّر تنظيم تظاهرة يقتل خلالها ملل العيش في جنّة. وراح ‏يهتف: "الشعب يريد إسقاط البنفسجي"، "الشعب يريد إسقاط ‏البنفسجي".